كتب الدكتور خالد روشة
والأشقياء بكل معنى الشقاء هم المفلسون من ريحانات الإيمان وروحه وجنته وسراحه ومراحه، فهم أبدا في تعاسة دائمة وضنك من العيش لا يطاق: قال الله _تعالى_ يصف حالهم: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طـه:124).
وبقدر إيمان المرء تكون سعادته...فتستقر نفسه لحسن موعود ربه، ويثبت قلبه بشعوره بمعيته، ويستريح ضميره من مخالفة هواه، وتبرد أعصابه أمام الحوادث، ويسكن قلبه عند وقع القضاء...قال الله _تعالى_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً... الآيات" (النحل: من الآية97).
عن أنس _رضي الله عنه_ ورواه البخاري في كتاب الدعوات أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان كثيرا ما يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال" وكأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد جمع معاني السعادة الدنيوية الكاملة والتي لها أكبر الأثر في المآل والآخرة في تلك الأمور التي ذكرها في ذلك الحديث والتي هي في الحقيقة منغصات حياته ومسببات حزنه وضيقه، وهى:
الهم: وهو ضيق الصدر الذي سببه ما يظنه المرء ويتوقعه مستقبلا، الحزن: وهو الضيق الذي سببه ما يفكر فيه المرء مما مضى، العجز: وهو عدم قدرة الآلة والجوارح عن القيام بما يأمله الإنسان ويطمح به، الكسل: وهو القعود عن المعالي والركون إلى الراحة وعدم السعي وبذل الجهد لتحقيق المطالب، الجبن: وهو العجز عن الشجاعة والإقدام، البخل: وهو العجز عن الجود بالمال في الصدقة والزكاة والإيثار...
الهم والحزن إذن داءان ضاران بالإنسان المسلم لابد أن يحاول جاهدا أن يطردهما عنه ما استطاع و إلا وقع فريسة لهما فأقعداه عن المعالي وحطماه عن الإنجاز، لذلك كان من المهم أن نتناول هذه القضية المؤثرة على نفس الإنسان وسلوكه، ونرى منهج الإسلام في تناولها، ونستفيد من آراء الخبراء في تطبيقات علاجها العملية..
يرى كثير من العلماء أن الصحة النفسية هي حالة نفسية يشير فيها الإنسان إلى "التوافق" مع نفسه أو مع مجتمعه الذي يعيش فيه، ويوازن بين مصالحة ومصالح مجتمعه، وأقصد بالتوافق: (عملية ديناميكية يحدث فيها تغيير أو تعديل في سلوك الفرد أو في أهدافه أو في حاجاته، أو فيها جميعا، ويصاحبها شعور بالارتياح والسرور إذا حقق الفرد ما يريد وحقق أهدافه وأشبع حاجاته، ويصاحبها شعور بعدم الارتياح والاستياء والضيق إذا فشل في تحقيق أهدافه، ومنع من إشباع حاجاته )..
وهذه الحالة اليائسة الضيقة من عدم الارتياح والاستياء وفقدان السرور هي الحالة التي يهجم فيها على المرء الهم ويتربص به ضيق الصدر والشعور بالفشل..
فهو إحساس يكون فيه الفرد نهباً للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها – في بعض الحالات - ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل إذ يشعر الفرد معه عندئذ بحاجة لذرف دموع الحزن والأسى ويود لو أنها تنزلق من مآقيه على الرغم من عدم وجودها.
وقد أشار المتخصصون أن ذلك الشعور إذا استسلم المرء له نهبه وأكله، وصار سمته تراجع في الفكر وضمور ينتهي في الفراغ الحاصل فيه وإنه ليتطور ليشلّ العقل عن ممارسة دوره السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده ومن هنا نجد أن كثيرا ما يصاحب الهموم والأحزان بعض الأمراض الفسيولوجية مثل القرحة وسوء الهضم وآلام القولون ووجع المفاصل والصداع والأرق... وغيرها الكثير.
وهذه الحالة المرضية هي حالة منتشرة إلى الحد الذي نستطيع أن نصفها بأنها مرض العصر الذي يصيب الشباب المسلم...ونحاول أن نلقى الضوء على هذه الحالة المرضية المنتشرة لدى شبابنا المسلم من خلال نظرة المتخصصين والعلماء.
..يختلف المتخصصون في تعريفهم لمعنى السعادة ولكنهم جميعا يرون أنها: حالة من السرور والرضا ونسيان الأحزان وذهاب الهموم، يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسي: " إن العلماء قد اختلفوا في تحديد معنى السعادة، فالبعض جعلها في خلو الإنسان من التوتر والانحراف والبعض الآخر جعلها في تحقيق التوازن بين مطالب الجسم والنفس والروح وبين مطالب الفرد والجماعة وغيرهم جعلوها في تحقيق التوافق مع النفس والمجتمع الذي يعيش فيه، وآخرون جعلوها في إشباع الحاجات وعلى قمتها الحاجة إلى تحقيق الذات....".
ويقول الأستاذ الدكتور محمد عثمان نجاتى: " السعادة هي تحقيق التوازن كما جاء في القرآن الكريم الذي أخبرنا أن الله خلق الإنسان من جسم وروح وأودع في كل منهما حاجاته التي تحفظه وتحميه وتنميه ودعا الإنسان إلى تحقيق التوازن بين حاجياته ووهبه العقل ليميز به بين طريقي الخير والشر ثم يختار ويفاضل بينهما ويفاضل بين طريق الهدى وطريق الشهوات وطريق الرهبانية وجعل طريق الهدى في عمل الصالحات التي تشبع حاجات الجسم والروح باعتدال دون تفريط، فقال _سبحانه_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" (النحل: من الآية97).
ويقول الدكتور محمد عبد الظاهر الطيب: "يظن كثير من الناس أن تحقيق السعادة إنما يكون بتحقيق اللذات العاجلة المحسوسة، وبالرغم من ضرورة الحصول على اللذة الحسية فإنها لا تسعد إلا الأطفال والصغار والمتخلفين عقليا الذين يطلبون الملذات العاجلة المحسوسة ويعجزون عن إدراك الملذات الآجلة فيقبلون على متع سريعة الزوال لا توصل إلى السعادة الحقيقية، كما لا يقبل على تحصيل تلك الملذات من البالغين إلا أصحاب النفوس الخسيسة الذين يجعلونها غايات ويطلبونها لذاتها ويبغون سعادتهم فيها فلا يوفقون لأن كثرة الإقبال عليها يولد النهم الذي يفسد متعتها ويشقى طالبها ويضني عابدها "
هل يمكن أن تتكون لدى الشباب المسلم ما يمكننا تسميته بالمناعة النفسية ضد تقلبات الحياة وهمومها؟!
فإننا نرى كثيرا من شبابنا المسلم يستسلم للهم والشعور به فاقدين للمناعة النفسية المناسبة التي تقيهم شر ذلك فما هو المعنى الصحيح للمناعة النفسية وكيف يتم تكوينها؟
يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسى: أن المناعة النفسية مفهوم فرضي يقصد به قدرة الشخص على مواجهة الأزمات والكروب وتحمل الصعاب والمصائب ومقاومة ما ينتج عنها من أفكار ومشاعر غضب وسخط وعداوة وانتقام وأفكار ومشاعر يأس وعجز وانهزامية وتشاؤم كما تمد المناعة النفسية الجسم بمناعة إضافية ..
ويقول الدكتور نجيب الكيلاني: للمناعة النفسية توجهات ثلاث أساسية (طبيعية ومكتسبة وصناعية ) فالطبيعية هي مناعة ضد التأزم والقلق وهى موجودة عند الإنسان المؤمن في طبيعة تكوينه النفسي, فالشخص صاحب التكوين النفسي السليم والخالد للإيمان القويم له مناعة طبيعية عالية ضد الهموم والكروب وعنده قدره عاليه على تحمل الإحباط ومواجهة الصعاب وضبط النفس، والمكتسبة هي تلك التي يكتسبها الإنسان من التعلم و الخبرات والمهارات التي تمر به حيث تعد بمثابة التطعيم لتنشيط جهاز المناعة لديه وهذا يجعل تعرضه للهموم أقل من جهة الأثر عليه، وأما الصناعية فهي الموجهة من التربويين والمتخصصين والعلماء عمدا إلى من يشكو من ذلك الداء أو غيره من الأمراض التي قد تصيب النفس، ولكننا نستطيع الجزم بأننا نستطيع تحسين أحوال المناعة النفسية عند استجابة المرء للمعالجة الإيمانية....
ويرى العلماء أن ثمة مناعة قرآنية شرعية مضادة للأحزان وأنها بين أيدينا غير أننا نذهل عنها في أحيان كثيرة فإن أهمية العلاج النفسي القرآني يتمثل في كونه البديل المناسب لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدئة التي قد يتعود عليها الجسم فتكون مرضاً أدهى وأمر من المرض الأصلي ذاته ولربما تتدهور الحالة النفسية ليصل حاله إلى أعلى درجات الحزن وفراغ الفؤاد والهلع والخوف..(ولسنا هنا نصف المنهج القرآني كعلاج دوائي لمرض ما وإنما هو منهج عملي متكامل وشفاء لأمراض الجسد والنفس وبصائر من الله _سبحانه_ يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم )
تختلف الأسباب التي تجلب الهموم وتتسبب في الأحزان المستمرة لدى الشباب المسلم ولكنها قد تجتمع في عدة محاور تدور حولها:
1- عدم تلبية حاجات القلب العقائدية: فالقلب في فاقة دائمة لا يمكن أن يسدها سوى قوة العقيدة في الله سبحانه، ومن أهمل تقوية ذلك كان شاعرا بنقص مستمر وفراغ لا نهائي وهو لا يدري سببه..
2- عدم الإنجاز: فأصحاب الإنجازات والذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم ولمجتمعهم قدرا كبيرا من التقدم الإيجابي غالبا ما يطردون الهموم حيث يكون همهم منصبا على رفعة أمتهم وتقدم ذواتهم في تحقيق التقدم المطرد، وعلى العكس فالذين لم يحققوا إنجازا يذكر طوال أعمارهم وينظرون خلفهم فلا يجدون إلا فراغا فهؤلاء يكون الهم أكثر قربا منهم.
3- الانكسار وفقدان العزة: فالعزة مصدرها قوة اليقين وصدق الانتماء وهما متحققان في المؤمن الذي أيقن بربه وبموعوده وصدق في الانتماء لدينه ولأمته معتقدا فضلها ورفعة قدرها، مهما مر بها من ظروف ضعف أو هزيمة قال الله تعالى " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "، أما المنهزمون الذين يقيمون قدر الأمم تقديرا خاطئاً ويضعف انتماؤهم لأمتهم فهؤلاء أكثر الذين يتعرضون للانكسار والذل والهزيمة.
4- عدم تحقق الأهداف: فكل إنسان له مرادات وآمال وأهداف وضعها لنفسه لا تغيب عن ذهنه يسعى لها ويحاول تحقيقها في كل يوم، ومن قصرت به أحواله وطاقاته وقدراته عن تحقيق أماله وأهدافه كان عرضة للهموم والأحزان المتكاثرة، ولقد علمنا النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن آمال المرء يجب أن تسير في طريق الآخرة لا في طريق الدنيا، حتى الأهداف الدنيوية يجب أن تكتسي بالنية الصالحة التي تجعلها من العمل الصالح فقال _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه الترمذي والنسائي " من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته منها إلا ما قسم له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه".
5- البعد عن البيئة الإيمانية الصحية: فالإسلام قد أنشأ بيئة إيمانية يمتنع عنها الهم وتتباعد عنها الأحزان تلك البيئة هي بيئة الأخوة الإيمانية والعلاقات الشفافة النقية التي هي بلا مصالح شخصية ولا منافع دنيوية فشرع لهم خمس صلوات يجتمعون فيها في المساجد وشرع لهم تواصل الأرحام وعلاقات الجيرة والأخوة الصادقة المخلصة، ومن ابتعد عن تلك البيئة وأهملها صار فريسة للوحدة والانعزال وصار طعما للهموم والأحزان.
يسمي الأطباء ذاك الداء الذي نحن بصدده "بمرض الاكتئاب" ويرون أنه داء عصري قد انتشر انتشارا فاق كل تصور فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه يوجد في هذا العالم ثلاثمائة وخمسين مليون إنسان مصاب بالاكتئاب المزمن يحتاجون إلى العلاج، لكن إحصاءات منظمة الصحة العالمية حول مرض العصر الأول تبقى موضع شك، لا بسبب إهمال المنظمة أو عدم دقة أرقامها، بل لأن عدد المصابين بذاك المرض الذين لا يبحثون عن علاج هو أضعاف هذا الرقم المعلن، والمصابون ليسوا متجانسين سواء من الناحية الاقتصادية - الطبقية أو الثقافية فمنهم المترف الذي يعاني من فائض الرفاهية والتخمة ومنهم الفقير الذي لا يحصل على الحد الأدنى متطلبات العيش.
لهذا فنسبة الانتحار تتعاظم في دول أوروبية هي مثار حسد الفقراء، ويصبح الزائد توأم الناقص قدر تعلق هذه الثنائية بالسايكولوجيا البشرية المعقدة، والتي تستعصي على التدوين في خانات أو إحصاءات أو حتى تحليلات عيادية!
ووجدت دراسة أجرتها جامعة ايموري في أطلانطا أن المصابين بالاكتئاب هم أكثر عرضة للإصابة بعدم انتظام ضربات القلب، مما يجعلهم عرضة للأخطار والأمراض المتلاحقة...
المتخصصون النفسيون يقرون بأنه لا علاج للداء يماثل العلاج الإسلامي له:
يرى المتخصصون أن دراسة موضوع الاكتئاب وعلاجه يعتبر من المواضيع الهامة في العصر الحديث وأنه رغم كثرة العلاجات النفسية الموصوفة له فإن ذلك يعدم الجدوى الحقيقية.. إذ سرعان ما تنتهي العقاقير ويرجع الاكتئاب إلى النفس من جديد.. ولا غرو أن نجد الكثير من السلبيات المصاحبة للاكتئاب عند المعالجة أو قبلها مثل الإدراك المشوب بالسلبية والروح الانهزامية من الأحداث الخاصة الداخلية للفرد والخارجية المحيطة به، كما نلاحظ توتر العلاقات الاجتماعية نظراً لذلك وصعوبة التعامل بشكل واضح وسليم مع الآخرين.
بل إنه يمكننا الجزم والتأكيد – بناء على تقارير المتخصصين - على قصور العلاج النفسي السريري للاكتئاب في الكثير من الحالات لخلوه من التشخيص الدقيق لعله الاكتئاب أو لعدم توفر العلاج الناجع وبالنهاية لا توجد حيلة للمعالجة
يقول الدكتور رامز طه: كمتخصص أستطيع أن أؤكد بعد ممارستي لأغلب أنواع العلاج النفسي.. أن الأسلوب الذي تتبعه مدارس العلاج المعرفي الحديث: "لآرون بيك" والعلاج العقلاني "لألبرت إليس" والتي تعد الأكثر تطورا في البحث والعلاج..أنها قد وضحت بصورة تامة في العلاج القرآنى والإسلامي، إذ إنها جميعها تلجأ إلى العلاج عن طريق مخاطبة العقل الواعي وتعديل التفكير ودحض الأفكار الانهزامية الخاطئة وغير المنطقية.. وهذا الأسلوب يتوافق تماماً مع أسلوب القرآن الكريم في علاج النفس وتصحيح انحرافها، بل إن القرآن قد تفوق كثيرا في علاجاته للنفس البشرية وبأبسط الأساليب وأكثرها أثرا، وكثيراً ما شاهدنا المرضى يرفضون إكمال أساليب العلاج لأنها تضعهم في صراع مع الذات ومع المجتمع، لأنها بشكل مباشر أو غير مباشر تدفع المريض إلى إشباع رغباته وغرائزه بدون أن تحدد له الطريقة المناسبة لمفاهيم وقيم المجتمع، كما أنها تهمل مناقشة الأفكار والمشكلات الحالية للمريض، لذلك كان الطريق السوي الأوحد لذلك هو طريق الإسلام وهو الذي جمع بين إيجابيات كل ذلك... ويضيف الدكتور طه: وإذا كان البعض يدعى أن العلاج النفسي لا علاقة له بالدين، فأنني أؤكد خطأ هذا الادعاء وعدم صحته تماماً بل لقد اعتمد التكيف النفسي على مر العصور على الدين واستعان به لمساعدة الإنسان على مواجهة لحظات الهزيمة والألم واليأس، وهاهو الإسلام يعطينا السبيل الأوفر حظا لعلاج تلك الأزمة..
ويصرح في هذا المجال كل من الدكتور أنور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذاً علم النفس الاجتماعي بأن التفاوت بين درجات الاكتئاب لدى المجتمعات تتفاوت بتفاوت واختلاف درجات الإيمان بالله وقدره وقضاءه وليس من قبيل الصدفة أن نجد زيادة عدد المصحات النفسية في مجتمع كأوربا، مثلاً، عنه في المجتمعات الإسلامية كما يؤكد العلاج القرآني على أن انحسار الاكتئاب عن النفس البشرية منوط بإيمانها إذ كلما ازداد التقارب والتوجه إلى الله والإخلاص له كان الاكتئاب معدوماً أو صفراً وهذا ما يتميز به المجتمع الإسلامي الحق عموماً عن غيره من المجتمعات الأخرى وهي نعمة من نعم الله أضفاها على عباده المؤمنين.
الحقيقة التي يجدر أن نشير إليها هنا هي أن العلاج القرآني بكل درجاته ومقاييسه لم يكن سريرياً بل علاجاً تحريضياً إيحائيا للفرد يدفعه إلى التقوى والإيمان بربه وتوثيق حبل علاقته به كما يدفعه الى التوكل عليه واليقين بقدرته سبحانه والتسليم بالقضاء والقدر واليقين في أثر الدعاء والمناجاة للخالق سبحانه. كما أنه علاج تحريضي سلوكي للفرد يقوم به بصورة ذاتية وثابتة حتى يصل لدرجة التلقائية، فهو يدعوه إلى الإنجاز والنجاح وإثبات الأثر وإصلاح الحياة والمجتمع..
ولذلك استطاع علماء الإسلام ودعاته الاتفاق على عدة محاور لحرب داء الهم والحزن وطردهما.. ومن ذلك:
أولا : الرضا: وأقصد به الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا والرضا بقضاء الله وقدره يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا " رواه مسلم.
إن عمل الرضا في النفس البشرية عمل عجيب إذ إنه يذيب شتى أنواع الآلام والأحزان الناتجة عن التعرض للمواقف والمشكلات أو المصائب التي ربما تحدث للإنسان فتزيده اكتئاباً أو تظلم الحياة في عينيه يقول الله _تعالى_: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة:155 - 157)، وأصل الرضا هنا هو صحة العقيدة في الله فمن رضي بالله ربا وإلها وحد عبوديته له سبحانه وحده فلم يشرك به شيئا فطهر قلبه من خبائث الشركيات والتعلقات بغير الله وهو ذاك الذي يهديه الله ويشرح صدره قال الله _سبحانه_: "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: من الآية125).
ثانيا: القناعة: وأقصد بها هنا معنى قد يخفى على كثير من الناس وهو بينه وبين الرضا علاقة عموم وخصوص فالقناعة هي قبول الحظ المقسوم للإنسان من الرزق والمال والأولاد والقوة والصحة والمتاع، يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ " ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس "رواه مسلم.
وأثر القناعة كعلاج للهموم هام جدا إذ إن كل قنوع غير متشوف لما في أيد الناس وغير ساخط على حاله من الفقر أو الصحة أو غيره، يقول الشافعي: أمت مطامعي فأرحت نفسي: فإن النفس إن طمعت تهون.
ثالثا: ذكر الله: قال الله سبحانه: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:97-99).
ذلك أن الذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه في سيره, ومثله كمثل الزاد للمسافر تمامًا, فإذا نقص زاده وقل طعامه خارت قواه وضعفت جوارحه, فوجب عليه عندئذ أن يعود إلى التزود.
* يقول ابن القيم _رحمه الله_: ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الصبح ثم يقعد يذكر الله _سبحانه_ إلى أقرب من نصف النهار, وكان يقول: هذه غدوتي وإن لم أتغدَّ لم أتقو ليومي.
ذلك فالذكر هو مكان التزود للسير في الطريق, وهو المنـزلة التي يتردد عليها دائمًا أهل الإيمان والجهاد والتقوى.
ومن أكرمه الله سبحانه بدوام الاتصال بذكره _سبحانه_ فقد أكرمه بفتح الباب إليه والسماح له بالقرب منه, ومن عزله الله سبحانه عن ذكره فقد منعه عنه وأبعده عن طريقه.
وذكر الله سبحانه سلاح المؤمن في كل المواطن والمواقف والمشكلات والأزمات, وبه يدفع المؤمن عنه الأمراض وتكشف الكربات وتهون عليه المصائب.
والمؤمن الحق هو الذي يفزع إلى ذكر الله إذا نزل به بلاء أو مصيبة ويلجأ إليه إذا دارت عليه دائرة أو حلَّت به نازلة.
وذكر الله سبحانه هو جنة المتقين التي يفرون إليها إذا ضاق بهم سجن الدنيا, فترى الذاكر بجسده فـي الدنيا سجينًا, لكنه بروحه وقلبه في الجنات مرفرفًا فرحًا مسرورًا, ذلك أن ذكر الله - لمن أحبه وداوم عليه - لا يدع قلب الإنسان الحزين إلا مسرورًا, ولا يدع نفس المتألم إلا راضية سعيدة.
رابعا: الإنجاز والعمل الصالح: لقد قرن الله كلاً من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى لرفع حالة الضيق المذكورة وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي تخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين فالاستقامة والعمل الصالح في عصورنا هذه بحاجة إلى جهاد نفسي وقناعة راكزة وإيمان راسخ يزيد من إفرازات الامينيا الأولية في الدماغ بصورة ذاتية معتدلة لينتفي الحزن وتحل السعادة بديلاً عنه كما أن الإنجاز هو الحل الأقوى والأكثر أثرا في ظروف المصابين بشعور الفشل والإحباط..
وأقصد بالإنجاز هنا محاولة التركيز والإنتاج في أي شيء يحسنه الفرد المسلم مهما كان قليلا وضئيلا فلئن نجح فيه فسيدفعه ذلك إلى إنجاز أكبر.
ولربما تمثل العمليات الإيمانية السابقة علاجاً نفسياً وعملياً للهم الداخلي لشبابنا المسلم ولعلنا تكون لنا عودة تفصيلية لدراسة الموضوع من جوانب أخرى _إن شاء الله_.
المصدر
الهموم والأحزان ضيفان ثقيلان على الإنسان في دنياه لا يكادان يفارقانه حتى يأذن الله _سبحانه_ له بدخول الجنة، حيث لا حزن ولا ألم، ولاهم و لا غم، ولا كرب و لا ضيق.... لذلك فإن من أول دعاء أهل الجنة: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ" (فاطر: من الآية34).
والأشقياء بكل معنى الشقاء هم المفلسون من ريحانات الإيمان وروحه وجنته وسراحه ومراحه، فهم أبدا في تعاسة دائمة وضنك من العيش لا يطاق: قال الله _تعالى_ يصف حالهم: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طـه:124).
وبقدر إيمان المرء تكون سعادته...فتستقر نفسه لحسن موعود ربه، ويثبت قلبه بشعوره بمعيته، ويستريح ضميره من مخالفة هواه، وتبرد أعصابه أمام الحوادث، ويسكن قلبه عند وقع القضاء...قال الله _تعالى_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً... الآيات" (النحل: من الآية97).
النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتعوذ من الهم والحزن:
عن أنس _رضي الله عنه_ ورواه البخاري في كتاب الدعوات أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان كثيرا ما يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال" وكأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد جمع معاني السعادة الدنيوية الكاملة والتي لها أكبر الأثر في المآل والآخرة في تلك الأمور التي ذكرها في ذلك الحديث والتي هي في الحقيقة منغصات حياته ومسببات حزنه وضيقه، وهى:
الهم: وهو ضيق الصدر الذي سببه ما يظنه المرء ويتوقعه مستقبلا، الحزن: وهو الضيق الذي سببه ما يفكر فيه المرء مما مضى، العجز: وهو عدم قدرة الآلة والجوارح عن القيام بما يأمله الإنسان ويطمح به، الكسل: وهو القعود عن المعالي والركون إلى الراحة وعدم السعي وبذل الجهد لتحقيق المطالب، الجبن: وهو العجز عن الشجاعة والإقدام، البخل: وهو العجز عن الجود بالمال في الصدقة والزكاة والإيثار...
تحرير القضية:
الهم والحزن إذن داءان ضاران بالإنسان المسلم لابد أن يحاول جاهدا أن يطردهما عنه ما استطاع و إلا وقع فريسة لهما فأقعداه عن المعالي وحطماه عن الإنجاز، لذلك كان من المهم أن نتناول هذه القضية المؤثرة على نفس الإنسان وسلوكه، ونرى منهج الإسلام في تناولها، ونستفيد من آراء الخبراء في تطبيقات علاجها العملية..
الهموم والأحزان أكبر أعداء لصحة المسلم النفسية:
يرى كثير من العلماء أن الصحة النفسية هي حالة نفسية يشير فيها الإنسان إلى "التوافق" مع نفسه أو مع مجتمعه الذي يعيش فيه، ويوازن بين مصالحة ومصالح مجتمعه، وأقصد بالتوافق: (عملية ديناميكية يحدث فيها تغيير أو تعديل في سلوك الفرد أو في أهدافه أو في حاجاته، أو فيها جميعا، ويصاحبها شعور بالارتياح والسرور إذا حقق الفرد ما يريد وحقق أهدافه وأشبع حاجاته، ويصاحبها شعور بعدم الارتياح والاستياء والضيق إذا فشل في تحقيق أهدافه، ومنع من إشباع حاجاته )..
وهذه الحالة اليائسة الضيقة من عدم الارتياح والاستياء وفقدان السرور هي الحالة التي يهجم فيها على المرء الهم ويتربص به ضيق الصدر والشعور بالفشل..
فهو إحساس يكون فيه الفرد نهباً للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها – في بعض الحالات - ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل إذ يشعر الفرد معه عندئذ بحاجة لذرف دموع الحزن والأسى ويود لو أنها تنزلق من مآقيه على الرغم من عدم وجودها.
وقد أشار المتخصصون أن ذلك الشعور إذا استسلم المرء له نهبه وأكله، وصار سمته تراجع في الفكر وضمور ينتهي في الفراغ الحاصل فيه وإنه ليتطور ليشلّ العقل عن ممارسة دوره السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده ومن هنا نجد أن كثيرا ما يصاحب الهموم والأحزان بعض الأمراض الفسيولوجية مثل القرحة وسوء الهضم وآلام القولون ووجع المفاصل والصداع والأرق... وغيرها الكثير.
وهذه الحالة المرضية هي حالة منتشرة إلى الحد الذي نستطيع أن نصفها بأنها مرض العصر الذي يصيب الشباب المسلم...ونحاول أن نلقى الضوء على هذه الحالة المرضية المنتشرة لدى شبابنا المسلم من خلال نظرة المتخصصين والعلماء.
مفهوم السعادة.. تفسير الإسلام لسيكولوجية السعادة:
..يختلف المتخصصون في تعريفهم لمعنى السعادة ولكنهم جميعا يرون أنها: حالة من السرور والرضا ونسيان الأحزان وذهاب الهموم، يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسي: " إن العلماء قد اختلفوا في تحديد معنى السعادة، فالبعض جعلها في خلو الإنسان من التوتر والانحراف والبعض الآخر جعلها في تحقيق التوازن بين مطالب الجسم والنفس والروح وبين مطالب الفرد والجماعة وغيرهم جعلوها في تحقيق التوافق مع النفس والمجتمع الذي يعيش فيه، وآخرون جعلوها في إشباع الحاجات وعلى قمتها الحاجة إلى تحقيق الذات....".
ويقول الأستاذ الدكتور محمد عثمان نجاتى: " السعادة هي تحقيق التوازن كما جاء في القرآن الكريم الذي أخبرنا أن الله خلق الإنسان من جسم وروح وأودع في كل منهما حاجاته التي تحفظه وتحميه وتنميه ودعا الإنسان إلى تحقيق التوازن بين حاجياته ووهبه العقل ليميز به بين طريقي الخير والشر ثم يختار ويفاضل بينهما ويفاضل بين طريق الهدى وطريق الشهوات وطريق الرهبانية وجعل طريق الهدى في عمل الصالحات التي تشبع حاجات الجسم والروح باعتدال دون تفريط، فقال _سبحانه_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" (النحل: من الآية97).
ويقول الدكتور محمد عبد الظاهر الطيب: "يظن كثير من الناس أن تحقيق السعادة إنما يكون بتحقيق اللذات العاجلة المحسوسة، وبالرغم من ضرورة الحصول على اللذة الحسية فإنها لا تسعد إلا الأطفال والصغار والمتخلفين عقليا الذين يطلبون الملذات العاجلة المحسوسة ويعجزون عن إدراك الملذات الآجلة فيقبلون على متع سريعة الزوال لا توصل إلى السعادة الحقيقية، كما لا يقبل على تحصيل تلك الملذات من البالغين إلا أصحاب النفوس الخسيسة الذين يجعلونها غايات ويطلبونها لذاتها ويبغون سعادتهم فيها فلا يوفقون لأن كثرة الإقبال عليها يولد النهم الذي يفسد متعتها ويشقى طالبها ويضني عابدها "
هل يمكن أن تتكون لدى الشباب المسلم ما يمكننا تسميته بالمناعة النفسية ضد تقلبات الحياة وهمومها؟!
فإننا نرى كثيرا من شبابنا المسلم يستسلم للهم والشعور به فاقدين للمناعة النفسية المناسبة التي تقيهم شر ذلك فما هو المعنى الصحيح للمناعة النفسية وكيف يتم تكوينها؟
يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسى: أن المناعة النفسية مفهوم فرضي يقصد به قدرة الشخص على مواجهة الأزمات والكروب وتحمل الصعاب والمصائب ومقاومة ما ينتج عنها من أفكار ومشاعر غضب وسخط وعداوة وانتقام وأفكار ومشاعر يأس وعجز وانهزامية وتشاؤم كما تمد المناعة النفسية الجسم بمناعة إضافية ..
ويقول الدكتور نجيب الكيلاني: للمناعة النفسية توجهات ثلاث أساسية (طبيعية ومكتسبة وصناعية ) فالطبيعية هي مناعة ضد التأزم والقلق وهى موجودة عند الإنسان المؤمن في طبيعة تكوينه النفسي, فالشخص صاحب التكوين النفسي السليم والخالد للإيمان القويم له مناعة طبيعية عالية ضد الهموم والكروب وعنده قدره عاليه على تحمل الإحباط ومواجهة الصعاب وضبط النفس، والمكتسبة هي تلك التي يكتسبها الإنسان من التعلم و الخبرات والمهارات التي تمر به حيث تعد بمثابة التطعيم لتنشيط جهاز المناعة لديه وهذا يجعل تعرضه للهموم أقل من جهة الأثر عليه، وأما الصناعية فهي الموجهة من التربويين والمتخصصين والعلماء عمدا إلى من يشكو من ذلك الداء أو غيره من الأمراض التي قد تصيب النفس، ولكننا نستطيع الجزم بأننا نستطيع تحسين أحوال المناعة النفسية عند استجابة المرء للمعالجة الإيمانية....
ويرى العلماء أن ثمة مناعة قرآنية شرعية مضادة للأحزان وأنها بين أيدينا غير أننا نذهل عنها في أحيان كثيرة فإن أهمية العلاج النفسي القرآني يتمثل في كونه البديل المناسب لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدئة التي قد يتعود عليها الجسم فتكون مرضاً أدهى وأمر من المرض الأصلي ذاته ولربما تتدهور الحالة النفسية ليصل حاله إلى أعلى درجات الحزن وفراغ الفؤاد والهلع والخوف..(ولسنا هنا نصف المنهج القرآني كعلاج دوائي لمرض ما وإنما هو منهج عملي متكامل وشفاء لأمراض الجسد والنفس وبصائر من الله _سبحانه_ يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم )
الأسباب وراء الهموم والأحزان لدى الشباب المسلم..
1- عدم تلبية حاجات القلب العقائدية: فالقلب في فاقة دائمة لا يمكن أن يسدها سوى قوة العقيدة في الله سبحانه، ومن أهمل تقوية ذلك كان شاعرا بنقص مستمر وفراغ لا نهائي وهو لا يدري سببه..
2- عدم الإنجاز: فأصحاب الإنجازات والذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم ولمجتمعهم قدرا كبيرا من التقدم الإيجابي غالبا ما يطردون الهموم حيث يكون همهم منصبا على رفعة أمتهم وتقدم ذواتهم في تحقيق التقدم المطرد، وعلى العكس فالذين لم يحققوا إنجازا يذكر طوال أعمارهم وينظرون خلفهم فلا يجدون إلا فراغا فهؤلاء يكون الهم أكثر قربا منهم.
3- الانكسار وفقدان العزة: فالعزة مصدرها قوة اليقين وصدق الانتماء وهما متحققان في المؤمن الذي أيقن بربه وبموعوده وصدق في الانتماء لدينه ولأمته معتقدا فضلها ورفعة قدرها، مهما مر بها من ظروف ضعف أو هزيمة قال الله تعالى " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "، أما المنهزمون الذين يقيمون قدر الأمم تقديرا خاطئاً ويضعف انتماؤهم لأمتهم فهؤلاء أكثر الذين يتعرضون للانكسار والذل والهزيمة.
4- عدم تحقق الأهداف: فكل إنسان له مرادات وآمال وأهداف وضعها لنفسه لا تغيب عن ذهنه يسعى لها ويحاول تحقيقها في كل يوم، ومن قصرت به أحواله وطاقاته وقدراته عن تحقيق أماله وأهدافه كان عرضة للهموم والأحزان المتكاثرة، ولقد علمنا النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن آمال المرء يجب أن تسير في طريق الآخرة لا في طريق الدنيا، حتى الأهداف الدنيوية يجب أن تكتسي بالنية الصالحة التي تجعلها من العمل الصالح فقال _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه الترمذي والنسائي " من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته منها إلا ما قسم له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه".
5- البعد عن البيئة الإيمانية الصحية: فالإسلام قد أنشأ بيئة إيمانية يمتنع عنها الهم وتتباعد عنها الأحزان تلك البيئة هي بيئة الأخوة الإيمانية والعلاقات الشفافة النقية التي هي بلا مصالح شخصية ولا منافع دنيوية فشرع لهم خمس صلوات يجتمعون فيها في المساجد وشرع لهم تواصل الأرحام وعلاقات الجيرة والأخوة الصادقة المخلصة، ومن ابتعد عن تلك البيئة وأهملها صار فريسة للوحدة والانعزال وصار طعما للهموم والأحزان.
الأطباء ورؤيتهم للقضية:
يسمي الأطباء ذاك الداء الذي نحن بصدده "بمرض الاكتئاب" ويرون أنه داء عصري قد انتشر انتشارا فاق كل تصور فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه يوجد في هذا العالم ثلاثمائة وخمسين مليون إنسان مصاب بالاكتئاب المزمن يحتاجون إلى العلاج، لكن إحصاءات منظمة الصحة العالمية حول مرض العصر الأول تبقى موضع شك، لا بسبب إهمال المنظمة أو عدم دقة أرقامها، بل لأن عدد المصابين بذاك المرض الذين لا يبحثون عن علاج هو أضعاف هذا الرقم المعلن، والمصابون ليسوا متجانسين سواء من الناحية الاقتصادية - الطبقية أو الثقافية فمنهم المترف الذي يعاني من فائض الرفاهية والتخمة ومنهم الفقير الذي لا يحصل على الحد الأدنى متطلبات العيش.
لهذا فنسبة الانتحار تتعاظم في دول أوروبية هي مثار حسد الفقراء، ويصبح الزائد توأم الناقص قدر تعلق هذه الثنائية بالسايكولوجيا البشرية المعقدة، والتي تستعصي على التدوين في خانات أو إحصاءات أو حتى تحليلات عيادية!
ووجدت دراسة أجرتها جامعة ايموري في أطلانطا أن المصابين بالاكتئاب هم أكثر عرضة للإصابة بعدم انتظام ضربات القلب، مما يجعلهم عرضة للأخطار والأمراض المتلاحقة...
المتخصصون النفسيون يقرون بأنه لا علاج للداء يماثل العلاج الإسلامي له:
يرى المتخصصون أن دراسة موضوع الاكتئاب وعلاجه يعتبر من المواضيع الهامة في العصر الحديث وأنه رغم كثرة العلاجات النفسية الموصوفة له فإن ذلك يعدم الجدوى الحقيقية.. إذ سرعان ما تنتهي العقاقير ويرجع الاكتئاب إلى النفس من جديد.. ولا غرو أن نجد الكثير من السلبيات المصاحبة للاكتئاب عند المعالجة أو قبلها مثل الإدراك المشوب بالسلبية والروح الانهزامية من الأحداث الخاصة الداخلية للفرد والخارجية المحيطة به، كما نلاحظ توتر العلاقات الاجتماعية نظراً لذلك وصعوبة التعامل بشكل واضح وسليم مع الآخرين.
بل إنه يمكننا الجزم والتأكيد – بناء على تقارير المتخصصين - على قصور العلاج النفسي السريري للاكتئاب في الكثير من الحالات لخلوه من التشخيص الدقيق لعله الاكتئاب أو لعدم توفر العلاج الناجع وبالنهاية لا توجد حيلة للمعالجة
يقول الدكتور رامز طه: كمتخصص أستطيع أن أؤكد بعد ممارستي لأغلب أنواع العلاج النفسي.. أن الأسلوب الذي تتبعه مدارس العلاج المعرفي الحديث: "لآرون بيك" والعلاج العقلاني "لألبرت إليس" والتي تعد الأكثر تطورا في البحث والعلاج..أنها قد وضحت بصورة تامة في العلاج القرآنى والإسلامي، إذ إنها جميعها تلجأ إلى العلاج عن طريق مخاطبة العقل الواعي وتعديل التفكير ودحض الأفكار الانهزامية الخاطئة وغير المنطقية.. وهذا الأسلوب يتوافق تماماً مع أسلوب القرآن الكريم في علاج النفس وتصحيح انحرافها، بل إن القرآن قد تفوق كثيرا في علاجاته للنفس البشرية وبأبسط الأساليب وأكثرها أثرا، وكثيراً ما شاهدنا المرضى يرفضون إكمال أساليب العلاج لأنها تضعهم في صراع مع الذات ومع المجتمع، لأنها بشكل مباشر أو غير مباشر تدفع المريض إلى إشباع رغباته وغرائزه بدون أن تحدد له الطريقة المناسبة لمفاهيم وقيم المجتمع، كما أنها تهمل مناقشة الأفكار والمشكلات الحالية للمريض، لذلك كان الطريق السوي الأوحد لذلك هو طريق الإسلام وهو الذي جمع بين إيجابيات كل ذلك... ويضيف الدكتور طه: وإذا كان البعض يدعى أن العلاج النفسي لا علاقة له بالدين، فأنني أؤكد خطأ هذا الادعاء وعدم صحته تماماً بل لقد اعتمد التكيف النفسي على مر العصور على الدين واستعان به لمساعدة الإنسان على مواجهة لحظات الهزيمة والألم واليأس، وهاهو الإسلام يعطينا السبيل الأوفر حظا لعلاج تلك الأزمة..
ويصرح في هذا المجال كل من الدكتور أنور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذاً علم النفس الاجتماعي بأن التفاوت بين درجات الاكتئاب لدى المجتمعات تتفاوت بتفاوت واختلاف درجات الإيمان بالله وقدره وقضاءه وليس من قبيل الصدفة أن نجد زيادة عدد المصحات النفسية في مجتمع كأوربا، مثلاً، عنه في المجتمعات الإسلامية كما يؤكد العلاج القرآني على أن انحسار الاكتئاب عن النفس البشرية منوط بإيمانها إذ كلما ازداد التقارب والتوجه إلى الله والإخلاص له كان الاكتئاب معدوماً أو صفراً وهذا ما يتميز به المجتمع الإسلامي الحق عموماً عن غيره من المجتمعات الأخرى وهي نعمة من نعم الله أضفاها على عباده المؤمنين.
كيف نظر الإسلام لعلاج الهموم والأحزان؟
الحقيقة التي يجدر أن نشير إليها هنا هي أن العلاج القرآني بكل درجاته ومقاييسه لم يكن سريرياً بل علاجاً تحريضياً إيحائيا للفرد يدفعه إلى التقوى والإيمان بربه وتوثيق حبل علاقته به كما يدفعه الى التوكل عليه واليقين بقدرته سبحانه والتسليم بالقضاء والقدر واليقين في أثر الدعاء والمناجاة للخالق سبحانه. كما أنه علاج تحريضي سلوكي للفرد يقوم به بصورة ذاتية وثابتة حتى يصل لدرجة التلقائية، فهو يدعوه إلى الإنجاز والنجاح وإثبات الأثر وإصلاح الحياة والمجتمع..
ولذلك استطاع علماء الإسلام ودعاته الاتفاق على عدة محاور لحرب داء الهم والحزن وطردهما.. ومن ذلك:
أولا : الرضا: وأقصد به الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا والرضا بقضاء الله وقدره يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا " رواه مسلم.
إن عمل الرضا في النفس البشرية عمل عجيب إذ إنه يذيب شتى أنواع الآلام والأحزان الناتجة عن التعرض للمواقف والمشكلات أو المصائب التي ربما تحدث للإنسان فتزيده اكتئاباً أو تظلم الحياة في عينيه يقول الله _تعالى_: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة:155 - 157)، وأصل الرضا هنا هو صحة العقيدة في الله فمن رضي بالله ربا وإلها وحد عبوديته له سبحانه وحده فلم يشرك به شيئا فطهر قلبه من خبائث الشركيات والتعلقات بغير الله وهو ذاك الذي يهديه الله ويشرح صدره قال الله _سبحانه_: "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: من الآية125).
ثانيا: القناعة: وأقصد بها هنا معنى قد يخفى على كثير من الناس وهو بينه وبين الرضا علاقة عموم وخصوص فالقناعة هي قبول الحظ المقسوم للإنسان من الرزق والمال والأولاد والقوة والصحة والمتاع، يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ " ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس "رواه مسلم.
وأثر القناعة كعلاج للهموم هام جدا إذ إن كل قنوع غير متشوف لما في أيد الناس وغير ساخط على حاله من الفقر أو الصحة أو غيره، يقول الشافعي: أمت مطامعي فأرحت نفسي: فإن النفس إن طمعت تهون.
ثالثا: ذكر الله: قال الله سبحانه: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:97-99).
ذلك أن الذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه في سيره, ومثله كمثل الزاد للمسافر تمامًا, فإذا نقص زاده وقل طعامه خارت قواه وضعفت جوارحه, فوجب عليه عندئذ أن يعود إلى التزود.
* يقول ابن القيم _رحمه الله_: ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الصبح ثم يقعد يذكر الله _سبحانه_ إلى أقرب من نصف النهار, وكان يقول: هذه غدوتي وإن لم أتغدَّ لم أتقو ليومي.
ذلك فالذكر هو مكان التزود للسير في الطريق, وهو المنـزلة التي يتردد عليها دائمًا أهل الإيمان والجهاد والتقوى.
ومن أكرمه الله سبحانه بدوام الاتصال بذكره _سبحانه_ فقد أكرمه بفتح الباب إليه والسماح له بالقرب منه, ومن عزله الله سبحانه عن ذكره فقد منعه عنه وأبعده عن طريقه.
وذكر الله سبحانه سلاح المؤمن في كل المواطن والمواقف والمشكلات والأزمات, وبه يدفع المؤمن عنه الأمراض وتكشف الكربات وتهون عليه المصائب.
والمؤمن الحق هو الذي يفزع إلى ذكر الله إذا نزل به بلاء أو مصيبة ويلجأ إليه إذا دارت عليه دائرة أو حلَّت به نازلة.
وذكر الله سبحانه هو جنة المتقين التي يفرون إليها إذا ضاق بهم سجن الدنيا, فترى الذاكر بجسده فـي الدنيا سجينًا, لكنه بروحه وقلبه في الجنات مرفرفًا فرحًا مسرورًا, ذلك أن ذكر الله - لمن أحبه وداوم عليه - لا يدع قلب الإنسان الحزين إلا مسرورًا, ولا يدع نفس المتألم إلا راضية سعيدة.
رابعا: الإنجاز والعمل الصالح: لقد قرن الله كلاً من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى لرفع حالة الضيق المذكورة وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي تخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين فالاستقامة والعمل الصالح في عصورنا هذه بحاجة إلى جهاد نفسي وقناعة راكزة وإيمان راسخ يزيد من إفرازات الامينيا الأولية في الدماغ بصورة ذاتية معتدلة لينتفي الحزن وتحل السعادة بديلاً عنه كما أن الإنجاز هو الحل الأقوى والأكثر أثرا في ظروف المصابين بشعور الفشل والإحباط..
وأقصد بالإنجاز هنا محاولة التركيز والإنتاج في أي شيء يحسنه الفرد المسلم مهما كان قليلا وضئيلا فلئن نجح فيه فسيدفعه ذلك إلى إنجاز أكبر.
ولربما تمثل العمليات الإيمانية السابقة علاجاً نفسياً وعملياً للهم الداخلي لشبابنا المسلم ولعلنا تكون لنا عودة تفصيلية لدراسة الموضوع من جوانب أخرى _إن شاء الله_.
المصدر
http://www.almoslim.net/node/83234
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق