الفن التعبيرى
قلة من بين مجموعات الرسامين قدمت تنويعا كالذي قدمه التعبيريون. لقد جمعهم هدف اساس واحد؛ ان يضعوا على القماشة ما يختلج في اعماقهم من احاسيس، وهم، لذلك، عمدوا الى تجزئة عناصر الحقيقة المرئية ليصعّدوا من قوة التعبير عن احاسيسهم تلك، اكثر من ان ينصاعوا الى ما تفرضه الرؤية عليهم وحسب. اضافة الى ذلك، كان لعملهم نكهة مشتركة خاصة، فهي قاسية عاطفية.. وغالبا ما تكون مؤلمة. اكثر من هذا، يكاد التعميم يكون مستحيلا، فقد كان البعض منهم في عجلة كي يُعرّوا انفسهم ويكشفوا كوامنها، فأهملوا بذلك تقنيتهم. اما الاخرون فلم يضحوا مطلقا بجمالية رسومهم التشكيلية. وبينما بقي البعض مخلصا لمبدأ توزيع الظل والضوء في الصورة وللنمذجة وللفضاء المألوف، قامر بعض آخر بالألوان النقية، وكان آخرون قد اظهروا تأثرا بالتكعيبية. واضيف الى هذا كله تعقيد آخر، هو أن الحركة ظهرت في بلدان عدة، فكان ان حورت بعض خصائصها بسبب الطابع المحلي في هذا البلد اوذاك.
ان أعنف شكل من اشكال التعبيرية نشأ في المانيا، حتى وصفت التعبيرية بأنها ظاهرة المانية خاصة وسِمة ثابتة واساسية في الروح الالمانية، إلا ان التعبيرية، في الواقع، لم تظهر اولا في المانيا، فقد كان من بين رساميها الاوائل من الفنانين المحدثين: الهولندي فان كوخ والبلجيكي جيمس إينسور والنرويجي ادوارد مونك، وكلهم تمردوا على الواقعية الانطباعية في فرنسا ومهدوا الأرض للتعبيرية.
فمونك (1863- 1944) قصد باريس حيث اعجب بفان كوخ، وسورا، ولوتريك، والنابيين. وكان معرضه الأول الذي نظمه في عام 1892 في برلين قد أثار ضجة وإسعة، لكنه على الرغم من ذلك أرسى قواعد شهرته في المانيا، ومالبث ان خلق تأثيرا عميقا في الفنانين الشباب. كانت الوحدة التي يعانيها الانسان تجاه قوى الطبيعة ووسط الجموع المندفعة في المدن الكبيرة تؤلف تجربة قاسية لهذا الفنان ذي الطبع المكتئب القلق المتشائم. كان ينجذب الى النساء بقدر ما كان يخشاهن في الوقت ذاته، والسعادة التي جلبنها اليه أقلت في ركبها صراعا وندما وتألما. لقد عبرعن هذا كله في رسمه بخطوط تمتد بعيدا، وتنثني بسوداوية، وباستعمال ألوان تحن الى الماضي حتى عندما تكون براقة.
شهدت دريسدن في عام 1905 ظهور المجموعة التي رفعت لواء التعبيرية الألمانية أول مرة وعرفت باسم "الجسر". كانت تضم في البداية اربعة فنانين من الشباب هم: فريتز بليل، وايرنست لودفيك كيرشنر، وايرينتى هيكل وكارل شميدت- روتلوف، والتحق بهم بعدئذ ماكس بكنتمتاين واوتو مولر، ولفترة قصيرة إميل نولده. استقت المجموعة توجهاتها من ما بعد الانطباعية والفن الزنجي والباسيفيكي، وكذلك من المحفورات الخشبية الالمانية القديمة ولجأ مؤسسو الحركة الى استعمال ألوان تأتلف وتلك التي استعملها الوحوشيون.
كاناوا على صلة بفان دونغن، لكنهم اكثر ميلا لاقتفاء آثار فلامنك. لم يسعوا الى الرهافة في تناغماتهم بل مارسوا درجات لونية حادة، نافذة، قوية. كان كيرشنر (1880-1938) ابرز شخوص المجموعة، وعكست صوره العارية، والمناظر الطبيعية، وشوارع المدينة طبعه العصبي المتوتر. وفي عام 1911 اقام في برلين سنوات قليلة حيث خفت حدته وهدأت ثورته وانجز اغلب اعماله المتزنة. لكن القلق ظل يلازمه، وبدت معالمه واضحة في الصور التي رسمها بعد عام 1917 في سويسرا، حين زاول رسم الجبال وحياة الرعاة الهادئة.
لم يمثل التعبيرية الالمانية في اوج عنفوانها احد اكثر من إميل نولده (1867-1956)، فسواء عالج موضوعات دينية تعرض الحواريين والمصلحين بجمالية خرقاء، او رسم رواد النوادي الليلية التافهين في برلين، او صور المشاهد الطبيعية بسماواتها المعذبة تبعث الغم فينا بعتمتها او اضائتها الدرامية، فقد حاول دائما ان يدهشنا. ولكي يحقق هذا، لم يجد لونا اكثرتوقدا وأقسى ملمسا فقطع الشكل أو رسمه على عجل، فبان كأن يده المسرعة قد قطعته بمنجل!.
ان في التعبيرية التي يقدمها لنا الفنان النمساوي. إوسكار كوكوشكا (1886-1980) معاناة اكثر و بدائية اقل، كما تحوي خصائص صورية اغنى. فقد بدا كوكوشكا رسم الصور الشخصية، وليس هناك رسام معاصر عمد- الى رسم الصور الشخصية بهذه "الهلوسة" الفريدة التي تكشف اعمق الحقائق النفسية. فلقد كان يصور الفنانين والمثقفين الذين جلسوا امامه بروح "فرويدية" كأنه يحلل شخصياتهم.. كان ينفذ الى اعماقهم ويميط اللثام، بحدسية خارقة، عما هو كامن في قلوبهم المغتمة العليلة المتوترة. وفي سفراته المتكررة بين الاعوام 1924- 1931 عرض علينا مشاهد جبال الألب ومناظر، "بانورامية" لباريس ومدريد والبندقية، تتسم بامتداداتها وبخاصيتها الرؤيوية وبايقاعاتها الغريبة، كما تتجلى العجالة في تنفيذها.
من المألوف ان ينضوي تحت لواء التعبيريين الرسامون الذين أسسوأ "اتحاد الفنانين الجدد" في عام 1909 في ميونيخ الذي اضحى يعرف بعد عامين من ذلك التاريخ باسم مجموعة "الفارس الأزرق"، وفي استطاعتنا ان نضم اليهم ايضا الرسامين الروسيين ألكسيي فون جاولينسكي وفاسيلي كاندنسكي، إللذين كانت ايقاعاتهما في فترات ما مشبعة بالرومانسية المندفعة. ومن بين الأماكن الأخرى جميعا في المانيا، كان الفنانون القاطنون في ميونيخ يتطلعون الى فرنسا. وقد امضى جاولينسكي وكاندنسكي بعض الوقت في باريس، حيث تأثرا بماتيس، في حين ان اصدقاءهما من الألمان، كفرانز مارك وأوغست ماك وبول كلي، كانوا على صلة بديلوني. ومالبث مارك وماك ان قتلا في اثناء الحرب العالمية الأولى، قبل ان يتسنى لهما انتاج صور وفيرة، مع ذلك، فان ماك (1887- 1914) بشخوصه الرزينة المحببة معا، ومارك (1880- 1916) بحيواناته التي حولها (بمسحة دينية وشاعرية) الى نقاوة الاسطورة، استطاعا ان يحققا اكثر مما كان متوقعا منهما. اما كلي وكاندنسكي فقد كانا من بين اكثر الفنانين اصالة وابتكارا في - عصرنا.
تعرّف لايونيل فايننغر (1871- 1956) الذي عرض رسومه مع مجموعة "الفارس الأزرق"، في عام 1913 على ديلوني ايضا، ولازمه التكوين الجلي القاسي المستمد من التكعيبية طيلة حياته. كانت حساسيته تجاه تأثيرات الضوء، وحلقة اللون الغامض الرقيق، قد اضفت بعض الأثيرية والشفافية حتى على تكويناته الهندسية الصماء التي رسمها للسفن والبنايات. لم تضع الحرب (1914- 1918) حدا للتعبيرية، غير أنه من المؤكد ان جماعاتها تفرقت في المانيا على الرغم من ان المنتمين اليها لم يغيروا اسلوبهم. لقد دفع الجيشان الذي اعقب الحرب فنانا مثل بيكمان الى نوع مغاير من الفن، بعيدا عن كيرشنر ونولده، لكنه لما يزل تعبيريا، وانبثقت مراكز مماثلة في مناطق اخرى، لاسيما في بلجيكا، في فلاندرز، حيث اتخذ الرسم التعبيري أحد أهم مظاهره المقنعة. وفي الواقع، ان التعبيرية عرفت هناك قبل ما يقرب من ثلاثين عاما بفضل جيمز إينسور (1860 - 1949) احد رواد الحركة في نطاقها العالمي. كان حتى بلغ الأربعين من عمره يعتبر احد الفنانين العظام في عصره، كما أعتبر سباقا في فرنسا ذاتها، وفي عام 1888 رسم لوحته الشهيرة "دخول المسيح بروكسل" في الوقت الذي انتقل فان كوخ الى "ارل"، وكان غوغان يناضل للعثور على اسلوبه الخاص في بونت- آفين. في ذلك الحين، إمتلك إينسور تماما عالمه واسلوبه، وبوضع أقنعة كرنفالية على شخوصه، او بتقليصهم الى هياكل عظمية ترتدي اسمالا، فقد لبى رغبته الدفينة في التوجيه الخلقي، وكشف لأقرانه من البشرجوانبهم المروعة، في وقت استخدم اللون والشكل بحرية.
هؤلاء الذين عاصروا العشرينيات من القرن العشرين كانوا اهم عناصر التعبيرية "الفلمنكية" فرتز فان دين بيرغ وكونستانت بيرميكه وغوستاف دي سميت. لم يكونوا يملكون الالوان الخفيفة الفاتحة التي ملكها إينسور، ولاملكوا موهبته الساخرة، لكنهم كانوا يتكلمون لغة اكثز خشونة. لقد طغى البني على ملونتهم وعكفوا على استغلال التضاد الدرامي بين الضوء والعتمة، ولجأوا الى التعبير عن قلقهم وتشاؤمهم، لكنهم كانوا أقل تمزقا من التعبيريين الألمان. ونحن نجد في صور بيرميكه (886 1- 3 5 9 1)، ذات الصبغة الغنية، الوان الأرض البكر المحروثة توا، والحقول المشبعة بالماء، ومشاهد من بحر الشمال مغلفة بنكهة العاصفة المنذرة، نستشف منها بساطة البيوت القروية، بل نستنشق رائحة مرابض الأبقار. ان شكله الهائل المختزل نتاج يد قاسية متوحشة، لكن تناغماته ليست سوقية، ومضمونه لا يخلو من سحر أبدا.
يحتل اللوكسمبورغي جوزيف كتر (1894- 1941) منزلة خاصة بين التعبيريين، فهو ليس فجا بربريا او قرويا، انه اكثر حيوية من كونه "متوحشا" واذا ما عصفت بروحه الأزمات لم يعمد الى ترجمتها اسلوبأ حاسما او اعتباطيا، وحتى حين كان يرسم لوحته "المهرجين" التي تمثل معاناة عقله بهذه الطريقة المؤثرة، كان مهتما دوما بجمالية اسلوبه، وظلت اشكاله قائمة بصلابة وثبات، وبقي لونه غنيا متنوعا.
بعض أعمال الفن التعبيرى