الحمد لله
ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله - في المشهور المعروف - في ربيع الأول من سنة (164هـ)، ولد ببغداد ، وقد جاءت أمه حاملا به من "مرو" التي كان بها أبوه ، أبوه شيباني ، وأمه كذلك ، فلم يكن أعجميا ولا هجينا ، بل كان عربياً خالصاً ، أصل أسرته من البصرة ، وكان جده والياً على سرخس ، ولما ظهرت الدعوة العباسية قام معها فقُتِل في ذلك ، وكان أبوه جندياً قائداً ، مات وهو صغير .اجتمع لأحمد خمسة أمور لم تجتمع لشخص إلا سارت به إلى العلا والسمو النفسي ، والبعد عن سفساف الأمور ، والاتجاه إلى معاليها ، تلك الأمور هي : شرف النسب والحسب ، واليتم الذي يُنَشِّئُه منذ فجر الصبا معتمدا على نفسه ، وحالٌ من الفقر غير المدقع ، لا تستخذي به النفس ، فلا يبطرها النعيم ، ولا تذلها المتربة ، ومع هذه الخصال قناعةٌ ونزوعٌ إلى العلا الفكري بتقوى الله تعالى ، والْتَقَى كل ذلك بعقل ذكي وفكر ألمعي .
نشأ الإمام أحمد ببغداد ، وتربى بها تربيته الأولى ، وقد كانت تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم ، وتخالفت مآربهم ، وزخرت بأنواع المعارف والفنون ، فيها القراء والمحدثون والمتصوفة وعلماء اللغة والفلاسفة ، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي ، رادَ فِقهَ الرأي في صدر حياته ، بدليل أنه تلقَّى أول الحديث عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، وهو قد كان من فقهاء الرأي ذوي القدم الثابتة فيه ، ثم اتجه إلى الحديث ، وعندما اعتزم في مستهل شبابه طلب الحديث كان لا بد أن يأخذ عن كل علماء الحديث في العراق والشام والحجاز ، ولعله أولُ محدِّث قد جمع الأحاديث من كل الأقاليم ودوَّنها ، فمسنده شاهد صادق الشهادة بذلك ، فهو قد جمع الحديث الحجازي والشامي والبصري والكوفي جمعا متناسبا .
لزم في بداية طلبه إماما من أئمة الحديث في بغداد ، واستمر يلازمه نحو أربع سنوات ، فلم يتركه حتى بلغ العشرين من عمره ، ذلك الإمام هو هشيم بن بشير الواسطي (ت 183هـ)، ثم في سنة (186هـ) ابتدأ رحلاته ليتلقى الحديث ، فرحل إلى البصرة ، وإلى الحجاز ، ورحل إلى اليمن ، ورحل إلى الكوفة ، وكان يود أن يرحل إلى الريّ ليسمع من جرير بن عبد الحميد ولم يكن قد رآه قبل في بغداد ، ولكن أقعده عن الرحلة إليه عظيمُ النفقة عليه في هذا السبيل .
رحل إلى الحجاز خمس مرات ، أولاها سنة (187هـ)، وفي هذه الرحلة الْتَقَى مع الشافعي ، وأخذ مع حديث ابنِ عيينة فقهَ الشافعي وأصولَه وبيانَه لناسخ القرآن ومنسوخه ، وكان لقاؤه بالشافعي بعد ذلك في بغداد عندما جاء الشافعي إليها وفي جعبته فقهه وأصوله محررة مقررة.
خرج إلى الحج خمس مرات ، ثلاثة منها حج فيها ماشيا ، وضل في إحداها عن الطريق ، وكان يستطيب المشقة في رحلة العبادة وطلب الحديث ، حتى إنه نوى سنة (198هـ) أن يذهب إلى الحج هو ورفيقه يحيى بن معين ، وبعد الحج يذهبان إلى عبد الرزاق بن همام بصنعاء اليمن ، وبينما هما يطوفان طواف القدوم إذا عبد الرزاق يطوف ، فرآه ابن معين وكان يعرفه ، فسلم عليه ، وقال له : هذا أحمد بن حنبل أخوك ، فقال حياه الله وثبته ، فإنه يبلغني عنه كل جميل . قال : نجيئ إليك غدا إن شاء الله حتى نسمع ونكتب . فلما انصرف قال أحمد معترضا : لم أخذت على الشيخ موعدا ؟ قال : لنسمع منه ، قد أراحك الله مسيرة شهر ، ورجوع شهر ، والنفقة . فقال أحمد : ما كنت لأفسد نيتي بما تقول ؛ نمضي ونسمع منه ، ثم مضى بعد الحج حتى سمع بصنعاء ، وفي الطريق انقطعت به النفقة حتى أكرى نفسه من بعض الحمالين ، ورفض كل مساعدة من غيره .
واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة ، حتى لقد رآه رجل من معاصريه والمحبرة في يده يكتب . فقال له : يا أبا عبد الله ، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين ؟ فقال : مع المحبرة إلى المقبرة . وكان رحمه الله تعالى يقول : أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر .
وهكذا كان أحمد يسير على الحكمة المأثورة : لا يزال الرجل عالما ما دام يطلب العلم ، فإذا ظن أنه علم ، فقد جهل . نطق بها عمله ، ونطق بها لسانه في تلك الكلمات .
وكان رحمه الله يطلب فيما يطلب علم الفقه والاستنباط مع الرواية ، وتلقى ذلك عن الشافعي وغيره ، بل إننا لننتهي إلى نقبل ما قيل عنه من أنه كان يحفظ كتب أهل الرأي ، ولكن لا يأخذ بها ، فقد قال تلميذه الخلال : " كان أحمد قد كَتَب كُتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها"
قال ابن الجوزي : إن أحمد لم ينصب نفسه للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ الأربعين ، وبعد أن ذاع ذكره في الآفاق الإسلامية ، فازدحم الناس على درسه شديدا ، حتى ذكر بعض الرواة أن عدة من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف ، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة فقط ، والباقي يتعلمون من خلقه وهديه وسمته ، وكان مجلسه بعد العصر ، تسوده الهيبة والتعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في " تاريخ الذهبي " عن المروذي صاحب أحمد في وصف مجالسه : " لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله ، كان مائلا إليها ، مقصرا عن أهل الدنيا ، وكان فيه حلم ، ولم يكن بالعجول ، بل كان كثير التواضع ، تعلوه السكينة والوقار ، وإذا جلس مجلسه بعد العصر لم يتكلم حتى يسأل "
وكان لا يحدث إلا من كتبه ، زيادة في التوثيق والتأكيد ، حتى قال ولده عبد الله : " ما رأيت أبي حَدَّثَ مِن حفظه من غير كتاب ، إلا بأقل من مائة حديث " .
ويجدر بنا أن نشير إلى أمر ذي بال ، وهو أن أحمد رضي الله عنه كان يحيا حياة سلفية خالصة ، تجرَّد فيها من ملابسات العصر ومناحراته ، وما يجري من منازلات فكرية وسياسية واجتماعية وحربية ، واختار أن يحلق بروحه في جو الصحابة والصفوة من التابعين ومن جاء بعدهم ، ممن نهج نهجهم واختار سبيلهم ، لذلك كان علمه وفقهه هو السنة وفقهها ، لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه ، فإن علم ذلك اتبع رأيهم ونفى غيره .
كان أحمد يعيش من غلة عقار تركه له أبوه ، يتعفف بكرائها عن الناس ، ولا يقبل عطية من أحد ، وكان عن عطايا الخلفاء أعف ، حتى عرض عليه الإمام الشافعي مرة أن يتولى قضاء اليمن بطلب من " الأمين " ، فقال أحمد للشافعي : " يا أبا عبد الله ! إن سمعت منك هذا ثانيا لم ترني عندك "
يروي حرملة بن يحيى تلميذُ الشافعي أنه قال : " خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل ".
وقال علي بن المديني : " أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة وهو يزداد خيرا ".
وقال يحيى بن معين : " والله لا نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد ".
يقول إسحاق بن راهويه : " كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا ، فكنا نتذكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة ، فأقول : ما مراده ؟ ما تفسيره ؟ ما فقهه ؟ فيقفون كلهم ، إلا أحمد بن حنبل ".
تعرض الإمام إلى محنة عظيمة بسبب دعوة المأمون الفقهاء والمحدثين أن يقولوا بمقالته في خلق القرآن ، فحبس وضرب وتوالى ثلاثة من الخلفاء على ذلك : المأمون ، والمعتصم ، والواثق .
عُرف الإمام أحمد بالصبر والقوة والجلد ، ويذكر أهل السير في ذلك خبرا ، أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم ، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته ، ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع وقع نظره أيضا على بعض أصحاب الشافعية ، فسأله : وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين ، فأثار ذلك دهشة الحاضرين وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه ، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجبا : انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه فيناظر في الفقه . ولكنها الإرادة القوية والإيمان العميق والنفس المفوضة المسلمة لقضاء الله .
توفي هذا الإمام العظيم ضحوة نهار الجمعة ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد .
وفي سيرة هذا الإمام الكثير من العبر والعظات ، رحم الله الإمام أحمد وجميع أئمة المسلمين .
وينظر كتاب " أحمد بن حنبل : حياته وعصره، آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة .
والله أعلم.
المصدر