Seifwedeif

Seifwedeif
Vision to close the gap between two different generations at life by putting their concerns and needs and making a useful discussion to continue communication between them

مشاركة مميزة

مصر...اللى ممكن متعرفهاش- محميات مصر- الجزء الأول

محمية ابو جالوم محمية طبيعية في "1992" وتتميز هذه المنطقة بطبوغرافية خاصة ونظام بيئي متكامل تنفرد بنظام كهفي تحت الماء و...

‏إظهار الرسائل ذات التسميات شخصيات اسلامية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شخصيات اسلامية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

العز بن عبد السلام - سلطان العلماء


العز بن عبدالسلام نسبه وقبيلته:
هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين أبو محمد الدمشقيُّ الشافعيُّ. وُلِد بدمشق سنة 577هـ/ 1181م، ونشأ فيها.

طفولة العز بن عبد السلام:
نشأ العزُّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا، وقد أتاح له ذلك - مع اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا، وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره.

ملامح من شخصية العز بن عبد السلام:

فقه العز بن عبدالسلام:
من أهم ملامح شخصية الشيخ (رحمه الله) علمه وفقهه، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّه تلميذه الأول ابنُ دقيق العيد بسلطان العلماء. ومما يشهد بسعة علم الشيخ ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة، عميقة الدقة في مادتها، والتي ما زال الكثير منها مخطوطًا ولم يطبع بعدُ.

هيبة العز بن عبدالسلام وجرأته في الحق:
هذا الجانب أيضًا مما تميّز به الشيخ وبلغ فيه مبلغًا عظيمًا حتى اشتهر به، فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده، لا يُذكر العز (رحمه الله) إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله، مهما علا مكانه، وارتفعت بين الناس مكانته.

ونظرة في أي مرحلة من حياة الشيخ نجد هذا الأمر ملازمًا له لا ينفك عنه بحالٍ من الأحوال، وله مواقف خالدة كثيرة في ذلك، منها:
حينما تولى (الصالح إسماعيل الأيوبي) أمر دمشق - وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكمًا لمصر - فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يُعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر. وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًّا حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصةً أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه.

ومن مواقفه الشهيرة أيضًا والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك؛ ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد. واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا - مع أنه قد جاء مصر بعد اضطهادٍ شديد في دمشق - وأصرَّ على كلمة الحق.

فرُفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه. فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يُسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله. وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره ليرحل من مصر، وخرج خلف الشيخ العالم الآلافُ من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييدًا له، وإنكارًا على مخالفيه. ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فقال له العزُّ: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين. ووافق الملك الصالح أيوب، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف بـ(بائع الأمراء).

وقد وُصف الشيخ (رحمه الله) أيضًا بالزهد والورع الشديدين، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء، والعطف على المحتاجين، مما يجعل من شخصيته (رحمه الله) نموذجًا رائعًا يُقتدى به في كل ميادين الحياة المختلفة.

شيوخ العز بن عبدالسلام:
حضر أبا الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني، وغيرهم. وخرَّج له الدمياطي أربعين حديثًا عوالي. وتفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر.
تلاميذ العز بن عبدالسلام:
روى عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والدمياطي، وأبو الحسين اليونيني، وغيرهم.

مؤلفات العز بن عبدالسلام:
للعز بن عبد السلام (رحمه الله) مؤلفات كثيرة، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، فله كتاب الإلمام في أدلة الأحكام، وترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام، وله كتاب في التفسير، وكتاب شجرة المعارف، وله كتاب في العقيدة سمّاه عقائد الشيخ عز الدين، وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي، وله كتاب الفتاوى الموصلية، وله كتاب القواعد الكبرى في فروع الشافعية، قال عنه صاحب كشف الظنون: "وليس لأحدٍ مثله". وكتاب كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وله كتاب الغاية في اختصار النهاية.

وقد شملت مؤلفات الشيخ التفسير وعلوم القرآن، والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله، والفتوى.

منهج العز بن عبدالسلام في البحث:
يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. ويرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة، والعقل هو أداة هذا الاستنباط.

ثناء العلماء على العز بن عبدالسلام:
قال عنه الذهبي: "بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة".
وقال عنه ابن دقيق العيد: "كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء". وقال عنه ابن الحاجب: "ابن عبد السلام أفقه من الغزالي". وقال عنه ابن السبكي: "شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها".

وفاة العز بن عبدالسلام:
تُوفِّي العز بن عبد السلام (رحمه الله) سنةَ 660هـ/ 1261م، عن ثلاثٍ وثمانين سنة.

المصدر:
http://islamstory.com/ar/%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2_%D8%A8%D9%86_%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85

شيخ الاسلام ابن تيمية



1- اسمه ونسبه:
هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني .
وذكر مترجموه أقوالاً في سبب تلقيب العائلة بآل (تيمية) منها ما نقله ابن عبد الهادي رحمه الله : (أن جده محمداً كانت أمه تسمى (تيمية)، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
وقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت بنتاً له فقال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك) .

2 - مولده ونشأته:

ولد رحمه الله يوم الاثنين، عاشر، وقيل: ثاني عشر من ربيع الأول سنة 661هـ. في حرّان .
وفي سنة 667هـ أغار
التتار على بلده، فاضطرت عائلته إلى ترك حران، متوجهين إلى دمشق ، وبها كان مستقر العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علمائها منذ صغره، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن يتم العشرين من عمره .
ومما ذكره ابن عبد الهادي رحمه الله عنه في صغره أنه: (سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير.
وعني بالحديث وقرأ ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي ، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في
النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) .
(وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء - غالباً - إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.
فإنه لم يكن مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، ولم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام
السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة) .
وكان رحمه الله حسن الاستنباط، قوي الحجة، سريع البديهة، قال عنه البزار  رحمه الله (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثاً، وبين معانيه، وما أريد فيه، يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه) .
وكان رحمه الله ذا عفاف تام، واقتصاد في الملبس والمأكل، صيناً، تقياً، براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً، ذاكراً لله في كل أمر على كل حال، رجاعاً إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله عنه: (ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع
الجهاد مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير) .

3 - عصره:
أولاً: الناحية السياسية:
يستطيع الواصف للحالة السياسية لعصر
ابن تيمية رحمه الله أن يحدد معالمها بثلاثة أمور رئيسة:
أ - غزو التتار للعالم الإسلامي.
ب - هجوم الفرنجة على العالم الإسلامي.
جـ -
الفتن الداخلية، وخاصة بين المماليك والتتار والمسلمين.
وقد ذكر ابن الأثير رحمه الله وصفاً دقيقاً لذلك العصر، وهو من أهله:
فقال: (لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم: منها هؤلاء التتر: فمنهم من أقبلوا من الشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها.
ومنها: خروج الفرنج - لعنهم الله - من الغرب إلى
الشام وقصدهم ديار مصر وامتلاكهم ثغرها - أي دمياط -، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن السيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة) .
فأما التتار: فقد كانوا فاجعة الإسلام والمسلمين في القرن السابع الهجري، في سقوط بغداد - وبها سقطت الخلافة العباسية - سنة (656هـ) وما قبل سقوط بغداد بسنوات ، وما بعد سقوط بغداد حيث كانت هذه الأحداث قريبة من ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية (ولا بد أن يكون قد شاهد آثار هذا الخراب والدمار بأم عينيه، وسمع تفاصيله المؤلمة عمن رأوا مناظره وشهدوها وشاهدوها، فمن الطبيعي أن يتأثر قلبه الغيور المرهف بنكبة المسلمين هذه وذلتهم، وتمتلئ نفسه غيظاً وكراهية لأولئك الوحوش الضواري) .
وأما ظهور الفرنجة أو (الحروب الصليبية): فقد كانت ولادة ابن تيمية رحمه الله في بداية الدور الرابع لهذه الحروب الذي يمثل دور الضعف الفرنجي وتجدد قوة المسلمين، باسترداد كثير من المدن الشامية الكبرى، وإكمال مسيرة طرد الفرنج من بلاد المسلمين.
وأما الفتن الداخلية: فما كان يحصل بين المماليك وتنازعهم على السلطة وما كان يحصل بينهم وبين التتر المسلمين، وقد كان لابن تيمية رحمه الله مشاركة في إصلاح بعض هذا، وفي مقدمة مواقف ابن تيمية رحمه الله يذكر المؤرخون قصته مع آخر أمراء المماليك وذلك بتذكيره بحقن دماء المسلمين، وحماية ذراريهم وصون حرماتهم .

ثانياً: الناحية الاجتماعية:
كانت مجتمعات المسلمين خليطاً من أجناس مختلفة، وعناصر متباينة بسبب الاضطراب السياسي في بلادهم.
إذ اختلط التتار - القادمون من أقصى الشرق حاملين معهم عاداتهم وأخلاقهم وطباعهم الخاصة - بالمسلمين في ديار الإسلام الذين هم أقرب إلى الإسلام عقيدة وخلقاً من التتر.
ونوعية ثالثة: ألا وهي أسرى حروب الفرنجة والترك إذ كان لهم شأن في فرض بعض النظم الاجتماعية، وتثبيت بعض العوائد السيئة، والتأثير اللغوي العام على المجتمع المسلم.
إضافة إلى امتزاج أهل الأمصار الإسلامية بين بعضهم البعض بسبب الحروب الطاحنة من التتار وغيرهم، فأهل العراق يفرون إلى الشام، وأهل دمشق إلى مصر والمغرب وهكذا.
كل هذا ساعد في تكوين بيئة اجتماعية غير منتظمة وغير مترابطة، وأوجد عوائد بين المسلمين لا يقرها الإسلام، وأحدث بدعاً مخالفة للشريعة كان لابن تيمية رحمه الله أكبر الأثر في بيان الخطأ والنصح للأمة، ومقاومة المبتدعة .

ثالثاً: الناحية العلمية:
في عصر ابن تيمية رحمه الله قل الإنتاج العلمي، وركدت الأذهان، وأقفل باب الاجتهاد وسيطرت نزعة التقليد والجمود، وأصبح قصارى جهد كثير من العلماء هو جمع وفهم الأقوال من غير بحث ولا مناقشة، فألفت الكتب المطولة والمختصرة، ولكن لا أثر فيها للابتكار والتجديد، وهكذا عصور الضعف تمتاز بكثرة الجمع وغزارة المادة مع نضوب في البحث والاستنتاج.
ويحيل بعض الباحثين ذلك الضعف إلى: سيادة الأتراك والمماليك مما سبب استعجام الأنفس والعقول والألسن، إضافة إلى اجتماع المصائب على المسلمين، فلم يكن لديهم من الاستقرار ما يمكنهم من الاشتغال بالبحث والتفكير .
ولا ينكر وجود أفراد من العلماء النابهين أهل النبوغ، ولكن أولئك قلة لا تنخرم بهم القاعدة. وثمة أمر آخر في عصر ابن تيمية أثر في علمه ألا وهو: اكتمال المكتبة الإسلامية بكثير من الموسوعات الكبرى في العلوم الشرعية: من التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
فالسنة مبسوطة، والمذاهب مدونة، ولم يعد من السهل تحديد الكتب التي قرأها وتأثر بها، ولا معرفة تأثير شيوخه عليه بدقة.

4 - محن الشيخ:
امتحن الشيخ مرات عدة بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ولما كانت منزلة شيخ الإسلام في الشام عالية عند الولاة وعند الرعية وشى به ضعاف النفوس عند الولاة في مصر، ولم يجدوا غير القدح في عقيدته، فطلب إلى مصر، وتوجه إليها سنة 705هـ. بعدما عقدت له مجالس في دمشق لم يكن للمخالف فيها حجة ، وبعد أن وصل إلى مصر بيوم عقدوا له محاكمة كان يظن شيخ الإسلام رحمه الله أنها مناظرة، فامتنع عن الإجابة حين علم أن الخصم والحكم واحد .
واستمر في السجن إلى شهر صفر سنة 707هـ، حيث طلب منه وفد من الشام بأن يخرج من السجن، فخرج وآثر البقاء في مصر على رغبتهم الذهاب معهم إلى دمشق.
وفي آخر السنة التي أخرج فيها من السجن تعالت صيحات
الصوفية في مصر، ومطالباتهم في إسكات صوت شيخ الإسلام رحمه الله فكان أن خُير شيخ الإسلام بين أن يذهب إلى دمشق أو إلى الإسكندرية أو أن يختار الحبس، فاختار الحبس، إلا أن طلابه ومحبيه أصروا عليه أن يقبل الذهاب إلى دمشق، ففعل نزولاً عند رغبتهم وإلحاحهم.
وما إن خرج موكب شيخ الإسلام من القاهرة متوجهاً إلى دمشق، حتى لحق به وفد من السلطان ليردوه إلى مصر ويخبروه بأن الدولة لا ترضى إلا الحبس.
وما هي إلا مدة قليلة حتى خرج من السجن وعاد إلى دروسه، واكب الناس عليه ينهلون من علمه.
وفي سنة 709هـ نفي من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان هذا من الخير لأهل الإسكندرية ليطلبوا العلم على يديه، ويتأثروا من مواعظه، ويتقبلوا منهجه، لكن لم يدم الأمر طويلاً لهم، فبعد سبعة أشهر طلبه إلى القاهرة الناصر قلاوون بعد أن عادت الأمور إليه، واستقرت الأمور بين يديه، فقد كان من مناصري ابن تيمية رحمه الله وعاد الشيخ إلى دورسه العامرة في القاهرة.
وامتحن شيخ الإسلام بسبب فتواه في مسألة
الطلاق ، وطُلب منه أن يمتنع عن الإفتاء بها فلم يمتنع حتى سجن في القلعة من دمشق بأمر من نائب السلطنة سنة 720هـ إلى سنة 721هـ لمدة خمسة أشهر وبضعة أيام.
وبحث حساده عن شيء للوشاية به عند الولاة فزوروا كلاماً له حول زيارة القبور، وقالوا بأنه يمنع من زيارة القبور حتى قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكتب نائب السلطنة في دمشق إلى السلطان في مصر بذلك، ونظروا في الفتوى دون سؤال صاحبها عن صحتها ورأيه فيها، فصدر الحكم بحقه في شعبان من سنة 726هـ بأن ينقل إلى قلعة دمشق ويعتقل فيها هو وبعض أتباعه واشتدت محنته سنة 728هـ حين أُخرج ما كان عند الشيخ من الكتب والأوراق والأقلام، ومنع من ملاقاة الناس، ومن الكتابة والتأليف .

5 - وفاته رحمه الله:
في ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة (728هـ) توفي شيخ الإسلام بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها، وأُذن للناس بالدخول فيها، ثم غُسل فيها وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وصُلي عليه بالقلعة، ثم وضعت جنازته في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، ثم صُلي عليه بعد صلاة الظهر، ثم حملت الجنازة، واشتد الزحام، فقد أغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس، أو من أعجزه الزحام، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام .

6 - مؤلفاته:
مؤلفات الشيخ كثيرة يصعب إحصاؤها، وعلى كثرتها فهي لم توجد في بلد معين في زمانه إنما كانت مبثوثة بين الأقطار كما قال الحافظ البزار (ت - 749هـ) رحمه الله:
(وأما مؤلفاته ومصنفاته، فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها. بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد؛ لأنها كثيرة جداً، كباراً وصغاراً، أو هي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه) .
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت - 795هـ) رحمه الله:
(وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر، سارت سير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها) .
وذكر ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله أن أجوبة الشيخ يشق ضبطها وإحصاؤها، ويعسر حصرها واستقصاؤها، لكثرة مكتوبه، وسرعة كتابته، إضافة إلى أنه يكتب من حفظه من غير نقل فلا يحتاج إلى مكان معين للكتابة، ويسئل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه.
ولما حبس شيخ الإسلام خاف أصحابه من إظهار كتبه، وتفرقوا في البلدان، ومنهم من تسرق كتبه فلا يستطيع أن يطلبها أو يقدر على تخليصها .

ومن أبرز كتبه ما يلي:
1 -
الاستقامة: تحقيق د. محمد رشاد سالم. طبع في جزئين.
2 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: تحقيق د. ناصر العقل طبع في جزئين.
3 - بيان تلبيس الجهمية: حقق في ثمان رسائل دكتوراه، بإشراف شيخنا فضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
4 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: طبع بتحقيق د. علي بن حسن بن ناصر، ود. عبد العزيز العسكر، ود. حمدان الحمدان، وكان في الأصل ثلاث رسائل دكتوراه .
5 - درء تعارض العقل والنقل: طبع بتحقيق د. محمد رشاد سالم في عشرة أجزاء، والجزء الحادي عشر خُصص للفهارس .
6 - الصفدية: تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبع في جزئين.
7 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام
الشيعة القدرية: تحقيق د. محمد رشاد سالم، وطبع في ثمانية أجزاء، وخصص الجزء التاسع منه للفهارس .
8 - النبوات: مطبوع .
وله من الكتب والرسائل الكثير جداً مما طبع بعضه مستقلاً، وبعضه في مجاميع كبيرة وصغيرة، والكثير منه لا يزال مخطوطاً سواء كان موجوداً أو في عداد المفقود .

7 - بعض ثناء الناس عليه:
قال العلامة كمال الدين بن الزملكاني (ت - 727هـ) : (كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم  والتبيين ) .

وقال أيضاً فيه: (اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها) .

وكتب فيه قوله:

ماذا يقول الواصفون له *** وصفاته جلّت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة *** هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة *** أنوارها أربت على
الفجر


وقال ابن دقيق العيد رحمه الله : (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد) .

وقال أبو البقاء السبكي : (والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به) ، وحين عاتب الإمام الذهبي (ت - 748هـ) الإمام السبكي  كتب معتذراً مبيناً رأيه في شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخاره بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أعظم من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان) .

وأما ثناء الإمام الذهبي على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو كثير، وذِكر ثناء الإمام الذهبي على ابن تيمية هو الغالب على من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى مواضع ترجمة ابن تيمية في كتب الإمام الذهبي، ولعلي أذكر بعض مقولات الإمام الذهبي في ابن تيمية، ومنها قوله:
(ابن تيمية: الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط) .

وقوله: (... ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين والنبالة، والذكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف...) .
وقال: (... هذا كله مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذ
النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية) .

ومما قاله في رثائه:
يا موت خذ من أردت أو فدع *** محوت رسم العلوم والورع
أخذت شيخ الإسلام وانقصمت *** عرى التقى واشتفى أولو البدع
غيبت بحراً مفسراً جبلاً *** حبراً تقياً مجانب الشيع
اسكنه الله في الجنان ولا *** زال علياً في أجمل الخلع
مضى ابن تيمية وموعده *** مع خصمه يوم نفخة الفزع
وقال فيه: (... كان قوالاً بالحق، نهاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه...) .

وقال عنه: (... لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زخار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومنافقتهم، ولا هو ينفرد بمسائل بالتشهي.... فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا في عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى....) .

وقال الشوكاني رحمه الله  (إمام الأئمة المجتهد المطلق) .

رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، وأسكننا وإياه في الفردوس الأعلى من جنته .

المصدر:

القاضي شريح - من صور العدل في الإسلام


هو أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس الكندي من أهل اليمن و يقال ان أصله فارسي و آباؤه من فرس اليمن  و الله اعلم.

تابعي اسلم في زمن الرسول صلي الله عليه و سلم و لكنه لم يلتق  بالرسول عليه الصلاة و السلام و جاء المدينة في خلافة أبو بكر الصديق.

تولي القضاء زهاء الستون عاما و أول من ولاه القضاء هو الفاروق و سبب توليه هذه القصة .

اشترى عمر رضي الله عنه فرسا من رجل من الأعراب وأعطاه ثمنه وعندما ركب عمر صهوة الفرس ومشى به إذا بالفرس لا يستطيع أن يسير لوجود عيب
فيه فرجع عمر إلى الرجل وقال له خذ فرسك فإنه معطوب أي فيه عيب.
فقال الرجل يا أمير المؤمنين لا آخذه لأنني بعته لك وهو سليم فقال عمر اجعل بيني وبينك حكما.
فالتفت الرجل وقال يحكم بيننا شريح بن حارث الكندي فقال عمر رضيت به.
فذهب عمر مع صاحب الفرس إلى شريح ولما سمع شريح مقالة الأعرابي
التفت إلى عمر وقال له هل أخذت الفرس سليما يا أمير المؤمنين..؟
فقال عمر: نعم فقال شريح احتفظ بما اشتريت أو رد كما أخذت.
وبعد أن سمع عمر هذا الكلام نسي قضية الفرس وقال متعجبا:
وهل القضاء إلا هكذا قول فصل وحكم عدل أي كلام موجز فاصل يحكم بالعدل.
ثم قال: سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها.

ولما ولاه عمر قاضيا على الكوفة ما كان شريح مجهول المقام في المدينة وإنما كان معروفا وكانت له مكانة بين الصحابة والتابعين وكانوا يقدّرون له عقله
ودينه وخلقه الرفيع وذكاءه وطول تجربته في الحياة وعمقه فيها.
و استمر في القضاء في زمن عمر ثم في زمن عثمان ثم علي ثم معاوية والذين جاؤوا بعد معاوية ولوه القضاء أيضا مثل يزيد بن معاوية ومروان وغيرهم.
إلى أن جاء الحجاج ورأى أن أحكامه لا تطبق فطلب الإعفاء من القضاء وكان عمره عندما أعفي من القضاء مائة وسبع سنوات رحمه الله تعالى.

شريح والقضاء

لقد تولى القضاء وعمره سبع وأربعين سنة وبقي ستين سنة قاضيا حافلة حياته بالمفاخر والمآثر.
قصصه في القضاء اكثر من ان تحصر في هذا المجال و التي توضح عدله و ذكاؤه و فطنته في ظل خلفاء يمتازون بالعدل والإنصاف وتطبيق الشريعة.

 ومن هذه القصص أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه  في ظل خلافته افتقد درعا وكانت غالية وعزيزة على نفسه رضي الله عنه وفي يوم من الأيام وجد هذه الدرع في يد ذمي أي نصراني من أهل الكوفة يبيع الدرع في سوق الكوفة.
فلما رآها علي عرفها فقال هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا في طريقي إلى صفين.
فقال الذمّي بل هي درعي يا أمير المؤمنين وفي يدي فكيف تدعي أنها لك.
قال علي إنما هي درعي لم أبعها لأحد ولم أهبها لأحد فكيف صارت لك...؟
قال الذمّي بيني وبينك قاضي المسلمين دعه يحكم بيننا فقال علي أنصفت فهلمّ إليه.

انظروا إلى القضاء بين الخليفة والذمي

جلس الأمير علي والذمي في مجلس القاضي شريح فلما صارا عنده في مجلس القضاء قال شريح لعلي ما تقول يا أمير المؤمنين:
فقال علي وجدت درعي مع هذا الرجل سقطت منّي في يوم كذا في مكان كذا وهي لم تصل إليه ببيع ولا بهبة فكيف صارت له...؟
فقال شريح للذمّي فما تقول أنت يا رجل فقال الذمّي: الدرع درعي وهي في يدي ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب.
وبحكم الإسلام إذا اختلف شخصان فإن الحكم هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر وعلي رضي الله عنه يدعي أن هذه له ولابد أن يأتي بالبينة مثل الشهود يشهدون على أن هذه له.

إذا لم تكن لديه بينة فاليمين على من أنكر ويحلف الرجل بأنها له وتنتهي المسألة.
فالتفت شريح بكل أدب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الصحابي الصادق العابد العالم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يكذب في دعواه لهذا قال له شريح: لا ريب عندي في أنك صادق في ما تقوله يا أمير المؤمنين وأن الدرع درعك ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان لك على صحة ما ادّعيت.

هنا قضية لا بد أن نلتفت إليه وهي لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه وقناعاته وإنما يجب أن يكون مجردا من قناعاته ومعلوماته الشخصية حتى يحكم بالدليل والبرهان.
قال علي نعم لدي مولاي فنبر وولدي الحسن يعرفان هذا الدرع ويشهدان لي.
فقال شريح يا أمير المؤمنين شهادة الابن لأبيه لا تجوز. أي لا يجوز أن يشهد الأصل للفرع ولا العكس في القضاء  ولا تقبل شهادة أحدهما للآخر.
فقال علي: سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
فقال شريح بلى يا أمير المؤمنين غير أنّي لا أجيز شهادة الولد لأبيه.
ثم التفت شريح إلى الذمي وقال له احلف فحلف وقال له شريح خذ الدرع.
فأخذ الذمي الدرع ومشى قليلا ثم رجع وقال والله إني لأشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين  ولكن أمير المؤمنين يقاضيني عند قاض هو عينه وقاضيه يقضي بالحكم لي عليه أشهد أن الدين الذي يحكم بهذا لحق  أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.

اعلم أيها القاضي أن الدرع لأمير المؤمنين فأنا تبعت الجيش وهم في طريقهم إلى صفين وسقطت الدرع عن جمله الأورق فأخذته.
فقال له علي الكريم الجواد: أما إنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك ووهبتك معها هذا الفرس أيضا.

فأخذ الذمّي الذي أسلم الدرع والفرس مسرورا بهما ولم تمض أيام حتى شوهد هذا الذمّي يقاتل تحت لواء علي الخوارج يوم النهروان واستشهد في تلك المعركة رحمه الله تعالى.

العشرة المبشرون بالجنة

*أبو بكر الصديق رضي الله عنه*

*هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد القرشي التميمي ، كنيته أبو بكر وكنية أبيه أبو قحافة
هو أول من دخل الإسلام من الرجال ولقب بالصديق لتصديقه عليه الصلاة والسلام في كل قول يقوله ، وفي حادثة الإسراء والمعراج وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أن إيمانه يجلو إيمان الأمة وهو صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة


*عمر بن الخطاب رضي الله عنه*

* هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط القرشي العدوي كنيته أبو حفص
هو أول من سمي أمير المؤمنين ولقب بالفاروق لتفريقه بين الحق والباطل يوم إسلامه ، وكان مشهورا بالقوة في الحق والعدل
أسلم في السنة السادسة للدعوة ، وكان إسلامه عزا ونصرا للإسلام تولى الخلافة بعد أبي بكر
واستشهد على يد أبو لؤلؤة المجوسي وهو ثاني الخلفاء الراشدين


*عثمان بن عفان رضي الله عنه*

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي
ثالث الخلفاء الراشدين وهو رابع من دخل الإسلام
كان يقوم الليل خاشعا ساجدا لله تعالى وكان تاجرا كبيرا ، وقد سخر ماله بعد إسلامه في خدمة الدعوة ، يلقب بذي النورين
لأنه تزوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم رقيّة ، وأم كلثوم  هاجر مع زوجته رقيّة الى الحبشة
تولى الخلافة بعد عمر بن الخطاب وكانت في خلافته مزيدا من الفتوح وهو ثالث الخلفاء الراشدين *


*علي بن أبي طالب رضي الله عنه*

هو علي بن أبي طالب ، وأبو طالب هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي
ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها ووالد الحسن والحسين رضي الله عنهما
وهو أول من آمن من الشباب وهو الذي نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وعرض نفسه للقتل ، فقد كان فارسا شجاعا
وكان عالما فقيها وهو رابع الخلفاء الراشدين


*أبو عبيدة بن الجراح  *

رضي الله عنه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن ضبة بن الحارث بن فهر ، من كنانة وكنيته أبو عبيدة
كان من السابقين الأولين أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية وحضر جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو أمين هذه الأمة كما لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أطلق عليه أمير الأمراء *


*سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه *
هو سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري أسلم وهو ابن سبع عشر سنة
وقد شهد بدرا والحديبية وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله
وهو قائد جيش القادسية وفاتح المدائن
وأحد أصحاب الشورى الستة الذين اختارهم عمر عند وفاته لاختيار خليفة منهم وأهل الشورى هم العارفون بكتاب الله تعالى المتفقهون في دينه من أهل التقوى والصلاح والخبرة في الشورى العامة والخاصة وحكم الشورى هو حكم الإسلام*


*الزبير بن العوام رضي الله عنه*

هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب كنيته أبو عبد الله
وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ، وابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها
وزوج السيدة أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما
ولقد أسلم الزبير وهو صغير السن وكان يبلغ ست عشر سنة
لم يتخلف عن غزوة من الغزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو من الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم *



*عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه*

أحد الثمانية السابقين الى الإسلام كان من الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في بيعة الرضوان
وكان تاجرا ثريا وعندما هاجر إلى المدينة فقد كثيرا من ماله
وفي المدينة ، هاجر وربح كثيرا من المال وقد كان كثير الإنفاق في سبيل الله فأعتق يوم أحد من ماله واحد وثلاثين عبدا وتصدق مرة بقافلة كاملة بكل ماتحمله
هاجر الى الحبشة الهجـرة الأولى والثانية كما هاجر الى المدينة مع المسلميـن وشهـد المشاهد كلها *


*سعيد بن زيد رضي الله عنهما*

سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته ، وهو من السابقين الأولين ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وشهد حصار دمشق وفتحها ، وكان واليا عليها*


*طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه*

*هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد القرشي التميمي من السابقين إلى الإسلام
وممن عذبوا في الله عذابا شديدا في سبيل الله وكان فارسا شجاعا ، فقد دافع بكل قوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أصيب ببضع وسبعون طعنة
وكان جوادا كريما ، فأنفق ثروته في سبيل الله وهو من أهل الشورى الستة الذين أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يختاروا من بينهم الخير *



***جمعنا الله واياكم معهم رضي الله عنهم أجمعين***

الجزري واحدا من عمالقة الهندسة في التاريخ


يعتبر الجزري واحدا من عمالقة الهندسة في التاريخ، إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دورا محوريا في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنيّة الحديثة.

هو بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري. ولد في جزيرة ابن عمر ومنها جاء لقبه "الجزري". كانت هذه الجزيرة جزءا من بلاد الشام، وهي اليوم تتبع تركيا وتقع على خط الحدود مع سوريا مباشرة. ورغم أنها لا تطل على البحر، فإن تسمية الجزيرة أطلقت عليها لكثرة الأنهار حولها. وهناك رأي يقول إن الاسم اشتق من لفظ سرياني قديم هو "جزرتا" يعني "البعيدة" وتحول إلى جزيرة بالعربية مع مرور الزمن.

يعتبر هذا المهندس من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل من دون قوة دفع بشرية، وقد احتوى كتابه الذي يعرف اختصارا بكتاب "الحيل" على مخططات لمائة آلة ميكانيكية وتوضيحات لكيفية صنع كل واحدة منها. وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل آلاته واختراعاته.

ويرى المؤرخون أن الجزري حلقة وصل مهمة في تاريخ تطور صناعة الآلات، فقد استفاد من أفكار من سبقوه، وأضاف لها إضافات جعلت تلك الأفكار مهيأة لتنتقل إلى الصورة الحديثة التي نعرفها بها اليوم، مثل توصله لأسمى اكتشافاته وهو النظرية التي تقول "إن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام".
وقد قاده اكتشافه هذا إلى اختراع عمود الكامات (Camshaft)، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. استخدم الجزري هذه التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية، كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالبا على شكل طاووس حيث استخدمت في قصور بني أرتق، أحد السلالات التركية التي حكمت منطقة ديار بكر بتركيا، الذين كان الجزري يشغل منصب كبير المهندسين في بلاطهم.

تلقف الأوروبيون اختراع الجزري بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصلوا إلى اختراع المحرك وبدأ عصر القطارات البخارية، التي كانت العمود الفقري لعصر النهضة والثورة الصناعية الأوروبية في القرون الوسطى.

ومن مساهماته القيمة في مجال تطوير الآلات الزراعية: السلسلة. كان أول من استخدم سلسلة معدنية لتدوير عمود الكامات، وهي التقنية نفسها التي تستخدم في محركات السيارات.

صنع هذا المهندس النابغة أدقّ ساعة شمعية في التاريخ، قدمت فكرة ما يعرف اليوم بـ"ستوب ووتش" لقياس الزمن الذي تستغرقه عملية ما. ويقول عنها المهندس والمؤرخ البريطاني دونالد هيل إنها احتوت على تقنية الحركة الذاتية، وذلك عن طريق شمعة وضعت على صحن خفيف تحته أسطوانات، وكلما احترقت الشمعة وخف وزنها دفعت الأسطوانات الصحن إلى الأعلى بشكل مستمر.

استخدم الجزري في هذه الساعة تقنية لم يسبقه إليها أحد ولا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، وهي تقنية توصيل الأجزاء بطريقة الفحل والأنثى (male female connector).

وفي مجال الساعات الميكانيكية الحديثة، قدم الجزري اختراعين كانا أساس صناعة الساعات في أوروبا في الخامس عشر الميلادي. الاختراع الأول هو المسننات الدقيقة، والثاني هو ميزان الساعة، وهو الجهاز الذي يحافظ على ثبات سرعة دوران المسننات، أي أنه يحافظ على عمل أجهزة الساعة بوتيرة واحدة، وإذا تعطل ستظهر الساعة الوقت بطريقة خاطئة إما متقدما وإما متأخرا.

أما في مجال الإنسان الآلي، فقد صنع أول نسخة بدائية من الألعاب التي صنعت بصورة إنسان، وتعمل بوظيفة مبرمجة لها مسبقا. فقد صنع فرقة موسيقية تطفو على سطح الماء مؤلفة من شخصيات عدة، كل واحدة منها تصدر صوت آلة موسيقية معينة. وقد صنع هذه الآلة خصيصا لتسلية ضيوف البلاط الملكي في ديار بكر.

وفي كتابه تاريخ تطور الإنسان الآلي، وصف مارك إي رتشمان، فرقة الجزري الموسيقية بالقول: "على عكس الإغريق، فإن الأمثلة العربية للإنسان الآلي لا تعكس تطورا مفصليا في التصميم فحسب، بل تعكس توجها لاستخدام الموارد المتاحة لراحة الإنسان".

وفي المجال الصحي، اخترع الجزري آلية تصريف المياه في المغاسل والحمامات، فاخترع حوضا لغسل اليدين، وبجانبه آلة على شكل خادمة أنثى. يكون الحوض مملوءا بالماء النظيف، وعندما ينتهي المستخدم من غسل يديه يقوم بسحب عتلة بجانب الحوض، فيندفع الماء المستخدم إلى خارج الحوض عن طريق قناة تفريغ، بينما تقوم الخادمة الآلية بملء الحوض بماء نظيف، وهي الآلية المستخدمة في حماماتنا اليوم.

وأخيرا وليس آخرا، ساعة الفيل. وتعتبر هذه الساعة من بدائع ما صنع الإنسان إلى اليوم، فهي ساعة على شكل فيل، تعمل عن طريق نظام ماء متدفق مخبأ في بطن الفيل. الفيل نفسه صنع بطريقة تأخذ الأنفاس حيث قام الجزري بتزيينه بطريقة فنية رفيعة المستوى، عن طريق تقسيمه إلى ستة أجزاء، كل جزء يحمل عناصر ثقافة معنية وهي: العربية والفرعونية والصينية والهندية والأفريقية والإغريقية.

يعتبر الغربيون ساعة الفيل تحفة من تحف الزمان ومن أبرع ما اخترع الإنسان ونسخة مبكرة لمفهوم التلاقي والتعدد الحضاري. صنعت نسخ عديدة من هذه الساعة الأسطورية. توجد نسخة من الساعة صنعت خصيصا لمتحف في سويسرا متخصص في تاريخ تطور آلات قياس الوقت، وتوجد نسخة فائقة الدقة في جامعة الملك سعود بالسعودية، وأخرى معروضة في مجمع ابن بطوطة للتسوق في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وضع الجزري في كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" عصارة عمل دؤوب استمر 25 عاما، ويظهر من طريقة عرضه أن هذا العالم كان يريد للمهتمين من بعده أن يستفيدوا من علمه، حيث وضع بالتفصيل طريقة صنع كل آلة من الآلات التي اخترعها.

ترجم الكتاب الذي أبهر الغرب إلى لغات عدة، وهو يعرض في متاحف عديدة حول العالم مثل تركيا وفرنسا وبريطانيا.

وقد طبع الكتاب في القرن السادس عشر في مطبعة عائلة مديشي، التي كانت تحكم فلورنسا بإيطاليا. وكانت هذه العائلة راعية المخترع والفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دا فنشي، الذي تقول الموسوعة البريطانية إنه درس كتاب الجزري.

فيديو يظهر اعمال الجزرى
المصدر : الجزيرة

الأحد، 25 سبتمبر 2016

الإمام أحمد بن حنبل



الحمد لله
ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله - في المشهور المعروف - في ربيع الأول من سنة (164هـ)، ولد ببغداد ، وقد جاءت أمه حاملا به من "مرو" التي كان بها أبوه ، أبوه شيباني ، وأمه كذلك ، فلم يكن أعجميا ولا هجينا ، بل كان عربياً خالصاً ، أصل أسرته من البصرة ، وكان جده والياً على سرخس ، ولما ظهرت الدعوة العباسية قام معها فقُتِل في ذلك ، وكان أبوه جندياً قائداً ، مات وهو صغير .

اجتمع لأحمد خمسة أمور لم تجتمع لشخص إلا سارت به إلى العلا والسمو النفسي ، والبعد عن سفساف الأمور ، والاتجاه إلى معاليها ، تلك الأمور هي : شرف النسب والحسب ، واليتم الذي يُنَشِّئُه منذ فجر الصبا معتمدا على نفسه ، وحالٌ من الفقر غير المدقع ، لا تستخذي به النفس ، فلا يبطرها النعيم ، ولا تذلها المتربة ، ومع هذه الخصال قناعةٌ ونزوعٌ إلى العلا الفكري بتقوى الله تعالى ، والْتَقَى كل ذلك بعقل ذكي وفكر ألمعي .

نشأ الإمام أحمد ببغداد ، وتربى بها تربيته الأولى ، وقد كانت تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم ، وتخالفت مآربهم ، وزخرت بأنواع المعارف والفنون ، فيها القراء والمحدثون والمتصوفة وعلماء اللغة والفلاسفة ، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي ، رادَ فِقهَ الرأي في صدر حياته ، بدليل أنه تلقَّى أول الحديث عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، وهو قد كان من فقهاء الرأي ذوي القدم الثابتة فيه ، ثم اتجه إلى الحديث ، وعندما اعتزم في مستهل شبابه طلب الحديث كان لا بد أن يأخذ عن كل علماء الحديث في العراق والشام والحجاز ، ولعله أولُ محدِّث قد جمع الأحاديث من كل الأقاليم ودوَّنها ، فمسنده شاهد صادق الشهادة بذلك ، فهو قد جمع الحديث الحجازي والشامي والبصري والكوفي جمعا متناسبا .

لزم في بداية طلبه إماما من أئمة الحديث في بغداد ، واستمر يلازمه نحو أربع سنوات ، فلم يتركه حتى بلغ العشرين من عمره ، ذلك الإمام هو هشيم بن بشير الواسطي (ت 183هـ)، ثم في سنة (186هـ) ابتدأ رحلاته ليتلقى الحديث ، فرحل إلى البصرة ، وإلى الحجاز ، ورحل إلى اليمن ، ورحل إلى الكوفة ، وكان يود أن يرحل إلى الريّ ليسمع من جرير بن عبد الحميد ولم يكن قد رآه قبل في بغداد ، ولكن أقعده عن الرحلة إليه عظيمُ النفقة عليه في هذا السبيل .
رحل إلى الحجاز خمس مرات ، أولاها سنة (187هـ)، وفي هذه الرحلة الْتَقَى مع الشافعي ، وأخذ مع حديث ابنِ عيينة فقهَ الشافعي وأصولَه وبيانَه لناسخ القرآن ومنسوخه ، وكان لقاؤه بالشافعي بعد ذلك في بغداد عندما جاء الشافعي إليها وفي جعبته فقهه وأصوله محررة مقررة.

خرج إلى الحج خمس مرات ، ثلاثة منها حج فيها ماشيا ، وضل في إحداها عن الطريق ، وكان يستطيب المشقة في رحلة العبادة وطلب الحديث ، حتى إنه نوى سنة (198هـ) أن يذهب إلى الحج هو ورفيقه يحيى بن معين ، وبعد الحج يذهبان إلى عبد الرزاق بن همام بصنعاء اليمن ، وبينما هما يطوفان طواف القدوم إذا عبد الرزاق يطوف ، فرآه ابن معين وكان يعرفه ، فسلم عليه ، وقال له : هذا أحمد بن حنبل أخوك ، فقال حياه الله وثبته ، فإنه يبلغني عنه كل جميل . قال : نجيئ إليك غدا إن شاء الله حتى نسمع ونكتب . فلما انصرف قال أحمد معترضا : لم أخذت على الشيخ موعدا ؟ قال : لنسمع منه ، قد أراحك الله مسيرة شهر ، ورجوع شهر ، والنفقة . فقال أحمد : ما كنت لأفسد نيتي بما تقول ؛ نمضي ونسمع منه ، ثم مضى بعد الحج حتى سمع بصنعاء ، وفي الطريق انقطعت به النفقة حتى أكرى نفسه من بعض الحمالين ، ورفض كل مساعدة من غيره .

واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة ، حتى لقد رآه رجل من معاصريه والمحبرة في يده يكتب . فقال له : يا أبا عبد الله ، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين ؟ فقال : مع المحبرة إلى المقبرة . وكان رحمه الله تعالى يقول : أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر .
وهكذا كان أحمد يسير على الحكمة المأثورة : لا يزال الرجل عالما ما دام يطلب العلم ، فإذا ظن أنه علم ، فقد جهل . نطق بها عمله ، ونطق بها لسانه في تلك الكلمات .

وكان رحمه الله يطلب فيما يطلب علم الفقه والاستنباط مع الرواية ، وتلقى ذلك عن الشافعي وغيره ، بل إننا لننتهي إلى نقبل ما قيل عنه من أنه كان يحفظ كتب أهل الرأي ، ولكن لا يأخذ بها ، فقد قال تلميذه الخلال : " كان أحمد قد كَتَب كُتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها"
قال ابن الجوزي : إن أحمد لم ينصب نفسه للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ الأربعين ، وبعد أن ذاع ذكره في الآفاق الإسلامية ، فازدحم الناس على درسه شديدا ، حتى ذكر بعض الرواة أن عدة من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف ، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة فقط ، والباقي يتعلمون من خلقه وهديه وسمته ، وكان مجلسه بعد العصر ، تسوده الهيبة والتعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في " تاريخ الذهبي " عن المروذي صاحب أحمد في وصف مجالسه : " لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله ، كان مائلا إليها ، مقصرا عن أهل الدنيا ، وكان فيه حلم ، ولم يكن بالعجول ، بل كان كثير التواضع ، تعلوه السكينة والوقار ، وإذا جلس مجلسه بعد العصر لم يتكلم حتى يسأل "
وكان لا يحدث إلا من كتبه ، زيادة في التوثيق والتأكيد ، حتى قال ولده عبد الله : " ما رأيت أبي حَدَّثَ مِن حفظه من غير كتاب ، إلا بأقل من مائة حديث " .

ويجدر بنا أن نشير إلى أمر ذي بال ، وهو أن أحمد رضي الله عنه كان يحيا حياة سلفية خالصة ، تجرَّد فيها من ملابسات العصر ومناحراته ، وما يجري من منازلات فكرية وسياسية واجتماعية وحربية ، واختار أن يحلق بروحه في جو الصحابة والصفوة من التابعين ومن جاء بعدهم ، ممن نهج نهجهم واختار سبيلهم ، لذلك كان علمه وفقهه هو السنة وفقهها ، لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه ، فإن علم ذلك اتبع رأيهم ونفى غيره .

كان أحمد يعيش من غلة عقار تركه له أبوه ، يتعفف بكرائها عن الناس ، ولا يقبل عطية من أحد ، وكان عن عطايا الخلفاء أعف ، حتى عرض عليه الإمام الشافعي مرة أن يتولى قضاء اليمن بطلب من " الأمين " ، فقال أحمد للشافعي : " يا أبا عبد الله ! إن سمعت منك هذا ثانيا لم ترني عندك "
يروي حرملة بن يحيى تلميذُ الشافعي أنه قال : " خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل ".
وقال علي بن المديني : " أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة وهو يزداد خيرا ".
وقال يحيى بن معين : " والله لا نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد ".
يقول إسحاق بن راهويه : " كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا ، فكنا نتذكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة ، فأقول : ما مراده ؟ ما تفسيره ؟ ما فقهه ؟ فيقفون كلهم ، إلا أحمد بن حنبل ".

تعرض الإمام إلى محنة عظيمة بسبب دعوة المأمون الفقهاء والمحدثين أن يقولوا بمقالته في خلق القرآن ، فحبس وضرب وتوالى ثلاثة من الخلفاء على ذلك : المأمون ، والمعتصم ، والواثق .
عُرف الإمام أحمد بالصبر والقوة والجلد ، ويذكر أهل السير في ذلك خبرا ، أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم ، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته ، ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع وقع نظره أيضا على بعض أصحاب الشافعية ، فسأله : وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين ، فأثار ذلك دهشة الحاضرين وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه ، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجبا : انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه فيناظر في الفقه . ولكنها الإرادة القوية والإيمان العميق والنفس المفوضة المسلمة لقضاء الله .

توفي هذا الإمام العظيم ضحوة نهار الجمعة ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد .

وفي سيرة هذا الإمام الكثير من العبر والعظات ، رحم الله الإمام أحمد وجميع أئمة المسلمين .
وينظر كتاب " أحمد بن حنبل : حياته وعصره، آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة .
والله أعلم.



المصدر

الامام ابو حنيفة النعمان


الإمام أبو حنيفة هو فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي ، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة ، وروى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له ، وعن الشعبي وغيرهم كثير .

وقد عني رحمه الله بطلب الآثار وارتحل في ذلك ، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك كما يقول الإمام الذهبي ، حتى قال :" وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين رضي الله عنه ورحمه "

وكان الإمام فصيح اللسان عذب المنطق ، حتى وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله :" كان أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة ، وأنبههم على ما يريد " ، وكان ورعا تقيا ، شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى ، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره ، حتى ضُرب بالسياط ليقبل تولي القضاء أو بيت المال فأبى .

حدث عنه خلق كثير ، وتوفي شهيدا مسقيا في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة . [ سير أعلام النبلاء 6 390 – 403 ، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص 63 ]

أما المذهب الحنفي فهو أحد المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة ، وهو أول المذاهب الفقهية ، حتى قيل :" الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة " ، وأصل المذهب الحنفي وباقي المذاهب أن هؤلاء الأئمة - أعني أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - كانوا يجتهدون في فهم أدلة القرآن والسنة ، ويفتون الناس بحسب الدليل الذي وصل إليهم ، ثم أخذ أتباع أولئك الأئمة فتاوى الأئمة ونشروها وقاسوا عليها ، وقعدوا لها القواعد ، ووضعوا لها الضوابط والأصول ، حتى تكوَّن المذهب الفقهي ، فتكوَّن المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي وتكوّنت مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي وسفيان لكنه لم يُكتب لها الاستمرار .

وكما ترى فإن أساس تلك المذاهب الفقهية كان قائما على اتباع الكتاب والسنة .

أما الرأي والقياس الذي أخذ به الإمام أبو حنيفة ، فليس المراد به الهوى والتشهي ، وإنما هو الرأي المبني على الدليل أو القرائن أو متابعة الأصول العامة للشريعة ، وقد كان السلف يطلقون على الاجتهاد في المسائل المشكلة " رأيا " كما قال كثير منهم في تفسير آيات من كتاب الله : أقول فيها برأيي ، أي باجتهادي ، وليس المراد التشهي والهوى كما سبق .

وقد توسع الإمام أبو حنيفة في الأخذ بالرأي والقياس في غير الحدود والكفارات والتقديرات الشرعية ، والسبب في ذلك أنه أقل من غيره من الأئمة في رواية الحديث لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة ، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو الكذب في العراق في زمانه وكثرة الفتن .

ويجب ملاحظة أن المذهب الحنفي المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، ليس كل الأقوال والآراء التي فيه هي من كلام أبي حنيفة ، أو تصح أن تنسب إليه ، فعدد غير قليل من تلك الأقوال مخالف لنص الإمام أبي حنيفة نفسه ، وإنما جعل من مذهبه بناء على تقعيدات المذهب المستنبطة من نصوص أخرى للإمام ، كما أن المذهب الحنفي قد يعتمد رأي التلميذ كأبي يوسف ومحمد ، إضافة إلى أن المذهب يضم اجتهادات لتلاميذ الإمام ، قد تصبح فيما بعد هي المذهب ، وليس هذا خاصا بمذهب أبي حنيفة ، بل قل مثل ذلك في سائر المذاهب المشهورة .

فإن قيل : إذا كان مستند المذاهب الأربعة في الأصل الكتاب والسنة ، فلماذا وجدنا اختلافا في الآراء الفقهية بينها ؟

فالجواب : أن كل إمام كان يفتي بحسب ما وصل إليه من دليل ، فقد يصل إلى الإمام مالك حديث فيفتي به ، ولا يصل إلى الإمام أبي حنيفة ، فيفتي بخلافه ، والعكس صحيح ، كما إنه قد يصل إلى أبي حنيفة حديث ما بسند صحيح فيفتي به ، ويصل إلى الإمام الشافعي نفس الحديث لكن بسند آخر ضعيف فلا يفتي به ، ويفتي بأمر آخر مخالف للحديث بناء على ما أداه إليه اجتهاده ، ولأجل هذا حصل الخلاف بين الأئمة - وهذا باختصار - ، لكن المعول والمرجع في النهاية لهم جميعا إلى الكتاب والسنة .

ثم إن الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة في حقيقة أمرهم وسيرتهم قد أخذوا بنصوص الكتاب والسنة ، وإن لم يفتوا بها ، وبيان ذلك أن كل الأئمة الأربعة قد نصوا على أنه إن صح حديث ما فهو مذهبهم ، وبه يأخذون ، وبه يفتون ، وعليه يستندون .

قال الإمام أبو حنيفة :" إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وقال رحمه الله :" لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " ، وفي رواية عنه :" حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي " ، زاد في رواية أخرى :" فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا "، وقال رحمه الله :" إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي "

وقال الإمام مالك رحمه الله :" إنما أنا بشر أخطيء وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " ، وقال رحمه الله :" ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم "

وقال الإمام الشافعي رحمه الله :" ما من أخذ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعزب عنه - أي تغيب - ، فمهما قلت من قول ، أو أصَّلت من أصل ، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولي "

وقال الإمام أحمد :" لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " ، وقال رحمه الله :" رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار - أي الأدلة الشرعية "

هذه نبذه يسيرة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، ومذهبه ، وختاما : لا يسع المسلم إلا أن يعرف لهؤلاء فضلهم ، ومكانتهم ، على أن ذلك لا يدعوه إلى تقديم أقوالهم على كتاب الله ، وما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسم - ، فإن الأصل اتباع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال ، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسم - كما قال الإمام مالك رحمه الله 


المصدر

نبذة عن الامام الشافعى


الحمد لله

أكثر الرواة على أن الشافعي قد ولد بغزة بالشام ، وعلى ذلك اتفق رأي الجمهرة الكبرى من مؤرخي الفقهاء وكاتبي طبقاتهم ، ولكن وجد بجوار هذه الرواية من يقول إنه ولد بعسقلان ، وهي على بعد ثلاثة فراسخ من غزة .

وعامة المؤرخين لنسبه أنه ولد من أب قرشي مطلبي ، واسمه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ، بن هاشم ، بن المطلب ، بن عبد مناف . فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف .

والأخبار تتفق على أنه عاش عيشة اليتامى الفقراء ، حفظ القرآن الكريم ، وبدا ذكاؤه الشديد في سرعة حفظه له ، ثم اتجه بعد حفظه القرآن الكريم إلى حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلفا بها ، حريصا على جمعها ، ويستمع إلى المحدثين فيحفظ الحديث بالسمع ، ثم يكتبه على الخزف أحيانا ، وعلى الجلود أخرى ، وكان يذهب إلى الديوان يستوعب الظهور ليكتب عليها . 
خرج إلى البادية ولزم هذيلا وهو يقول : خرجت من مكة فلازمت هذيلا بالبادية ، أتعلم كلامها ، وآخذ طباعها ، وكانت أفصح العرب ، أرحل برحيلهم ، وأنزل بنزولهم ، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار ، وأذكر الآداب والأخبار ، ولقد بلغ من حفظه لأشعار الهذيليين وأخبارهم أن الأصمعي - ومكانته من اللغة مكانته – قال : صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس . 

طلب الشافعي العلم بمكة على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين ، وبلغ شأوا عظيما ، حتى لقد أذن له بالفتيا مسلم بن خالد الزنجي ، وقال له : افت يا أبا عبد الله ، فقد آن لك أن تفتي . 
وكان ذلك في وقت انتشر اسم مالك في الآفاق ، وتناقلته الركبان ، وبلغ شأوا من العلم والحديث بعيدا ، فسمت همة الشافعي إلى الهجرة إلى يثرب في طلب العلم ، ولكنه لم يرد أن يذهب إلى المدينة خالي الوفاض من علم مالك رضي الله عنه ، فقد استعار الموطأ من رجل بمكة وقرأه ، والروايات تقول إنه حفظه .

ذهب الشافعي إلى مالك يحمل معه كتاب توصية من والي مكة ، وبهذه الهجرة أخذت حياة الشافعي تتجه إلى الفقه بجملتها ، ولما رآه مالك – وكانت له فراسة – قال له : يا محمد ! اتق الله ، واجتنب المعاصي ، فإنه سيكون لك شأن من الشأن ، إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا ، فلا تطفئه بالمعصية . ثم قال له : إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك . 

ويقول الشافعي : فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأ ظاهرا والكتاب في يدي ، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول : يا فتى زد ، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة . 
لما مات مالك وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطرا ، اتجهت نفسه إلى عمل يكتسب منه ما يدفع حاجته ويمنع خصاصته ، وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى الحجاز والي اليمن ، فكلمه بعض القرشيين في أن يصحبه الشافعي ، فأخذه ذلك الوالي معه ، ويقول الشافعي : ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتمول به ، فرهنت دارا ، فتحملت معه ، فلما قدمنا عملت له على عمل.

تولى على نجران ، فأقام العدل ونشر لواءه ، ويقول هو في ذلك : وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان ، وموالي ثقيف ، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه ، فأرادوني على نحو ذلك فلم يجدوا عندي . 
اتُّهِم الشافعي بأنه مع العلوية ، فأرسل الرشيد أن يحضر النفر التسعة العلوية ومعهم الشافعي ، ويقول الرواة أنه قتل التسعة ، ونجا الشافعي بقوة حجته ، وشهادة محمد بن الحسن له ، كان قدومه بغداد في هذه المحنة سنة (184هـ) أي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره . ولعل هذه المحنة التي نزلت به ساقها الله إليه ليتجه إلى العلم لا إلى الولاية والسلطان .

قال ابن حجر : انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس ، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه ، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة ، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حملا ليس فيه شيء إلا وقد سمعه عليه ، فاجتمع علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث ، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول وقعد القواعد وأذعن له الموافق والمخالف ، واشتهر أمره وعلا ذكره وارتفع قدره حتى صار منه ما صار . 
بهت أهل الرأي في أول التقائه بهم في بغداد سنة (184هـ) حتى قال الرازي في ذلك : انقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث . 
ثم عاد الشافعي إلى مكة وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي ، والتقى بأهل العلم في موسم الحج ، واستمعوا إليه ، وفي هذا الأوان التقى به أحمد بن حنبل .

ثم قدم الشافعي بغداد للمرة الثانية في سنة (195هـ)، وألف لأول مرة كتاب " الرسالة " الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه ، وجاء في مناقب الشافعي للرازي أنه روى أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص ، فوضع الشافعي رضي الله عنه كتاب " الرسالة " وبعثها إليه ، فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي قال : ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل ، ثم يقول الرازي : واعلم أن الشافعي رضي الله عنه قد صنف كتاب الرسالة وهو ببغداد ، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة ، وفي كل واحد منهما علم كثير . 

ثم انتقل الشافعي إلى مصر ، قال الربيع : سمعت الشافعي يقول ـ في قصة ذكرها : 
لَقَدِ أصبحَتْ نَفْسِي تَتُوقُ إِلَى مِصْرَ ... وَمِنْ دُونِهَا أَرْضُ المَهَامِهِ وَالقَفْرِ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَلِلْمَالِ وَالغِنَى ... أُسَاقُ إِلَيْهَا أَمْ أُسَاقُ إِلَى قَبْرِي
قال : فوالله ما كان إلا بعد قليل ، حتى سيق إليهما جميعا !!"
"تاريخ بغداد" (2/70) ، "سير أعلام النبلاء" (10/77) . 
يعني : أنه نال المال والغنى ، والوفرة والحظوة والمكانة في مصر ، ثم كانت وفاته فيها في آخر ليلة من رجب سنة (204هـ) ، وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عاما ، وقبره بها !!

قال داود بن علي الظاهري : 
" للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من شرف نسبه ، وصحة دينه ومعتقده ، وسخاوة نفسه ، ومعرفته بصحة الحديث وسقيمه وناسخه ومنسوخه وحفظ الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف " 
ولقد قال أحمد بن حنبل فيه : 
" ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها ، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة ، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى "

وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضا : 
" كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن ، فهل ترى لهذين من خلف ، أو عنهما من عوض " . 
وللتوسع عن حياة هذا الإمام وعلمه وفقهه ، نحيل إلى كتاب " الإمام الشافعي حياته ومذهبه ، آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة .


المصدر

الامام مالك بن أنس


نبذة عن الإمام مالك

ولد مالك بن أنس رحمه الله – كما عند أكثر العلماء – سنة (93هـ) بالمدينة المنورة ، 
فرأى آثار الصحابة والتابعين ، كما رأى آثار النبي صلى الله عليه وسلم والمشاهد العظام ، 
فكان لذلك أثر في فكره وفقهه وحياته ، فالمدينة مبعث النور ومهد العلم ومنهل العرفان .
ينتهي نسبه إلى قبيلة يمنية هي " ذو أصبح "، 
وأمه اسمها العالية بنت شريك الأزدية ، فأبوه وأمه عربيان يمنيان . 
نشأ في بيت اشتغل بعلم الأثر ، وفي بيئة كلها للأثر والحديث ، 
فجدُّهُ مالك بن أبي عامر من كبار التابعين ، روى عن عمر بن الخطاب ، 
وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وعائشة أم المؤمنين ، 
وقد روى عنه بنوه أنس أبو مالك الإمام ، وربيع ، ونافع المكنى بأبي سهيل ، 
ولكن يبدو أن أباه أنسًا لم يكن مشتغلا بالحديث كثيرا ،
 ومهما يكن حاله من العلم ففي أعمامه وجدِّه غناء ، 
ويكفي مقامهم في العلم لتكون الأسرة من الأسر المشهورة بالعلم ، 
ولقد اتجه من قبل مالك من إخوته أخوه النضر ، فقد كان ملازما للعلماء يتلقى عليهم . 
حفظ الإمام مالك القرآن الكريم في صدر حياته - كما هو الشأن في أكثر الأسر الإسلامية -،
 ثم اتجه إلى حفظ الحديث ، فوجد من بيئته محرِّضًا ، ومن المدينة مُوعزا ومُشجعا ، 
لمَّا ذكر لأمه أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم ، ألبسته أحسن الثياب ، 
وعمَّمَته ، ثم قالت : " اذهب فاكتب الآن "، 

وكانت تقول : " اذهب إلى ربيعة فتعلم أدبه قبل علمه ". "المدارك" (ص/115)
جالس ابن هرمز سبع سنين في بداية نشأته ، أخذ عنه اختلاف الناس ، 
والرد على أهل الأهواء ، وتأثر بهديه وسمته ، حتى قال : 
" سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول : لا أدري ، 
حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال لا أدري ...
قال ابن وهب : كان مالك يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدري ".

ولازم نافعا مولى ابن عمر ، وكان يقول : " كنت آتي نافعا نصف النهار
وما تظلني الشجرة من الشمس ، أَتَحَيَّنُ خروجَه ، فإذا خرج أدَعُهُ ساعة كأني لم أره ،
 ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه ، حتى إذا دخل أقول له : كيف قال ابن عمر في كذا وكذا ، 
فيجيبني ، ثم أحبس عنه ، وكان فيه حدة ". "الديباج المذهب" (ص/117)

وأخذ عن الإمام ابن شهاب الزهري ، وروي عنه أنه قال : " شهدت العيد ، 
فقلت : هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب ، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه ، 
فسمعته يقول لجاريته : انظري مَن في الباب . فنظرت ، فسمعتها تقول : مولاك الأشقر مالك . 
قال : أدخليه . فدخلت ، فقال : ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك ! قلت : لا . 
قال : هل أكلت شيئا . قلت : لا . قال : اطعم . قلت : لا حاجة لي فيه . 
قال : فما تريد ؟ قلت : تحدثني . قال لي : هات. فأخرجت ألواحي فحدثني بأربعين حديثا . 
فقلت : زدني . قال : حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ . 
قلت : قد رويتها . فجبذ الألواح من يدي ثم قال : حَدِّث . 
فحدثته بها . فردها إلي وقال : قم فأنت من أوعية العلم .

قال بعض علماء الأثر : " كان إمام الناس بعد عمر زيد بن ثابت ، 
وبعده عبد الله بن عمر ، وأخذ عن زيد واحد وعشرون رجلا ، 
ثم صار علم هؤلاء إلى ثلاثة : ابن شهاب ، وبكير بن عبد الله ، وأبي الزناد ، 
وصار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن أنس ." "المدارك" (68)

كان شديد التعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
 حتى " سئل مالك : أسمعت عن عمرو بن دينار . 
فقال : رأيته يحدث والناس قيام يكتبون ، 
فكرهت أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم " .
وكما لم يدخر جهدا في حفظ الحديث ومجالسة العلماء ، لم يدخر مالا في سبيل ذلك ، 
حتى قال ابن القاسم : " أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته ، 
فباع خشبه ، ثم مالت عليه الدنيا من بعد ." "المدارك" (ص/115)

بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار والفتيا اتخذ له مجلسا في المسجد النبوي لتعليم الناس – 
وفي بعض الروايات أنَّ سِنَّه كان ذلك في السابعة عشرة -
 ولقد قال رحمه الله في هذا المقام ، وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس والإفتاء - : 
" ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل ، 
فإن رأوه لذلك أهلا جلس ، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم 
أني موضع لذلك ". "المدارك" (ص/127)

كان الإمام رحمه الله يتزين لمجلس الحديث ، ويضفي عليه من الهيبة والجلالة ما لم يكن لغيره ، 
حتى قال الواقدي : " كان مجلسه مجلس وقار وعلم ، وكان رجلا مهيبا نبيلا ،
 ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ، ولا رفع صوت ، 
وإذا سئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا "

ولإخلاصه في طلب العلم التزم أمورا وابتعد عن أمور ، فالتزم السنة والأمور الظاهرة الواضحة البينة ، 
ولذلك كان يقول : " خير الأمور ما كان منها واضحا بَيِّنًا ، 
وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك ، فخذ بالذي هو أوثق "
والتزم الإفتاء فيما يقع من المسائل دون أن يفرض رأيه، 
خشية أن يضل وأن يبعد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والتزم الأناة في الإفتاء ، وكان يفكر التفكير الطويل العميق ، ولا يسارع إلى الإفتاء ،
 فإن المسارعة قد تجر إلى الخطأ ، ويقول ابن القاسم تلميذه : " سمعت مالكا يقول : 
إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، ما اتفق لي فيها رأي إلى الآن "
وكان يقول : " من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار ، 
وكيف يكون خلاصه في الآخرة ". "الديباج المذهب" (ص/23)
ولقد سأله سائل مرة وقال : مسألة خفيفة . فغضب وقال : مسألة خفيفة سهلة !! 
ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) فالعلم كله ثقيل ، 
وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة . "المدارك" (162)

ومع بُعدِ هذا الإمام عن الثورات والتحريض عليها ، واشتغاله بالعلم ، 
نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور ، سنة (146هـ) ، 
وقد ضرب في هذه المحنة بالسياط ، ومدت يده حتى انخلعت كتفاه ، 
والسبب المشهور أنه كان يحدث بحديث : ( ليس على مستكره طلاق ) ، 
وأن مروجي الفتن اتخذوا من هذا الحديث حجة لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور ، 
وأن هذا ذاع وشاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية بالمدينة ، 
وأن المنصور نهاه عن أن يحدث بهذا الحديث ، ثم دس إليه من يسأله عنه ، 
فحدث به على رؤوس الناس ، فضربه والي المدينة جعفر بن سليمان ، 
وفي بعض الروايات أن أبا جعفر المنصور اعتذر للإمام مالك بعد ذلك بأن ما وقع لم يكن بعلمه .

قال أبو يوسف صاحب أبي حنفية :
" ما رأيت أعلم من ثلاثة : مالك ، وابن أبي ليلى ، وأبي حنيفة "
وقال عبد الرحمن بن مهدي : 
" أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة : سفيان الثوري بالكوفة ، 
ومالك بالحجاز ، والأوزاعي بالشام ، وحماد بن زيد بالبصرة " 
وقال سفيان بن عيينة : " ما نحن عند مالك ! إنما كنا نتبع آثار مالك ، 
وننظر الشيخ إذا كتب عنه مالك كتبنا عنه ... 
وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موت مالك بن أنس "
وقال الشافعي : " إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به ...وإذا جاء الخبر فمالك النجم ،
 وإذا ذكر العلماء فمالك النجم ، ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته ، 
ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك " 
وقال أحمد بن حنبل :
" مالك سيد من سادات أهل العلم ، وهو إمام في الحديث والفقه ، 
ومَن مثل مالك ! متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب " 

قال القاضي عياض رحمه الله :
"عاش نحو تسعين سنة ، كان فيها إماما يروي ويفتي ، ويسمع قوله نحو سبعين سنة ،
 تنتقل حاله كل حين زيادة في الجلال ، ويتقدم في كل يوم علوه في الفضل والزعامة ، 
حتى مات ، وقد انفرد منذ سنين ، وحاز رياسة الدنيا والدين دون منازع ." "المدارك" (111)
أكثر الرواة على أنه مات سنة (179هـ). 
رحم الله الإمام مالكا وجميع أئمة المسلمين .
وينظر كتاب " مالك حياته وعصره، آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة .

والله أعلم.

طارق بن زياد البربرى البطل


طارق بن زياد

(ت 720 م)

طارق بن زياد بربري من قبيلة الصدف. 
وكانت مضارب خيام هذه القبيلة في جبال المغرب العالية. 
وهي قبيلة شديدة البأس، ديانتها وثنية. 
وكان طارق بن زياد فارساً شجاعاً مقداماً ، وكان غازياً بطاشاً.

ولم يصل المسلمون إلى شمال أفريقيا 
إلا في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك ، 
الذي وكّل موسى بن نصير بهذه المهمة.

وقد دخلت القبائل الوثنية في الإسلام ، 
ومن بينها قبيلة طارق بن زياد، 
ذلك الفارس الشاب الذي أعجب موسى بن نصير بشجاعته وقوته، 
ولهذا عهد إليه بفتح شمال أفريقيا . وحارب طارق المشركين 
ودخل الكثيرون منهم في الإسلام وتم أسر من لم يسلم منهم. 
وبعد هذا النجاح عينه موسى بن نصير واليا على طنجة.

فتح الأندلس

كان الحلم الأكبر الذي يراود طارق بن زياد هو اجتياز الماء إلى الجهة الأخرى 
واجتياح أسبانيا ، التي كانت تحت حكم ملك القوط لذريق. 
وكان حاكم سحبة يناصب لذريق هذا العداء، 
ولهذا قام بالاتصال بطارق بن زياد وموسى بن نصير 
وأخذ يحثهما على غزو أسبانيا مبديا استعداده لمساعدتهما.

وبعد مراسلات مع الخليفة في الشام وافق الخليفة على ذلك. 
وقاد طارق بن زياد جيش المسلمين 
واجتاز المضيق الذي يفصل بين شمال أفريقيا وأوروبا، 
والذي أصبح يعرف فيما بعد باسمه (مضيق طارق بن زياد)، 
والتقى الجمعان بالقرب من نهر لكه. 
ووقف طارق بن زياد يومها أمام جنوده وألقى خطبته المشهورة:

"أيها الناس أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، 
وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.. وإني لم أحذِّركم أمراً أنا عنه بنجوة.. 
واعلموا إنكم إن صبرتم على الأشـقّ قليلاً استمتعتم بالأرفهِ الألذّ طويلاً .. 
وإن حملتُ فاحملوا وإن وقفت فقفوا. ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال.
 ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه أو أُقتَلَ دونه.
فإن قتِلتُ فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا 
وتذهب ريحكم وتولّوا الدبر لعدوّكم فتبدّدوا بين قتيل وأسير".
هجم المسلمون على جيش القوط فدبّ الرعب في قلوبهم.

أما قائدهم لذريق فلمحه طارق بن زياد وصوّب رمحه نحوه 
وأرداه قتيلاً يتخبّط في دمائه التي صبغت لون النهر. 
وعندها صاح طارق بن زياد: "قتلت الطاغية.. قتلت لذريق"..

وبعد هذه المعركة صارت الطريق ممهدة أمام المسلمين لفتح البلاد.
وفتح طارق المدن الأسبانية واحدة تلو الأخرى . 
لكنه احتاج إلى المدد فكاتب موسى بن نصير قائلاً : 
"إن الأمم قد تداعت علينا من كل ناحية فالغوث الغوث".

سارع موسى بن نصير ووصل الأندلس على رأس جيش قوامه 18 ألف مقاتل 
من العرب والبربر وذلك سنة 712. واتحد الجيش مع جيش طارق بن زياد، 
حيث خاض الجيش الموحد معركة "وادي موسى" 
التي هزم المسلمون فيها جموع القوط ودانت لهم بعد هذا النصر الأندلس كلها.

طارق بن زياد بين فكي التاريخ

لطارق بن زياد فضل كبير في إخضاع القبائل البربرية في شمال أفريقيا 
وفي فتح الأندلس وهزم القوط في "معركة نهر لكه" و"معركة وادي موسى".
وبالرغم من قلة جنده وشحّ المساعدات، 
وبالرغم من المصاعب التي واجهها في بلاد يدخلها لأوّل مرة، 
إلا انه استطاع فتح الأندلس وتحقيق الانتصار. 
إلا أن كل هذا لم يشفع له عند موسى بن نصير الذي 
ربما يكون قد توجه للأندلس عام 712 لا ليقدّم المساعدات لطارق بن زياد 
بعد رسالته إليه، وإنما لينسب فتح الأندلس لنفسه.
لقد كان موسى بن نصير حاقداً على طارق لأنه تقدّم أكثر مما أراد !! 
وبدلاً من تهنئته قام بإهانته وتوبيخه ثم عزله وسجنه 
ولم يطلق سراحه إلا بعد تدخّل الخليفة الوليد !!

نهاية البطل

توجه طارق بن زياد بصحبة موسى بن نصير إلى دمشق
ومعه أربعمائة من أفراد الأسرة المالكة 
وجموع من الأسرى والعبيد والعديد من النفائس.
ولما وصلا طبريا في فلسطين، طلب منهما سليمان ولي العهد التأخّر 
حتى يموت الخليفة الوليد الذي كان يصارع الموت. 
لكنهما تابعا تقدّمهما ودخلا مع الغنائم إلى دمشق.
وبسبب هذا غضب عليهما سليمان،
 لأنه كان يريد أن ينسب الفتح والغنائم لنفسه ..
وعندما تولّى سليمان الخلافة ، عزل موسى وأولاده ، 
وقتل ابنه عبد العزيز بن موسى الذي شارك في فتح الأندلس . 
أما طارق بن زياد جالب النصر والغنائم 
فأهمِلَ وبقي بدون شأن ومات فقيراً سنة 720 م.

عانى طارق بن زياد من الظلم والحبس عند موسى بن نصير، 
فحسب أن العدل عند الخليفة الوليد .. لهذا توجه إلى الشام . 
ولكن بعد وصوله مع موسى بن نصير إلى دمشق،
مات الخليفة بعد أربعين يوماً ، 
وتسلّم السلطة وليّ العهد الذي كان يتوعدهما، والذي انتقم من كليهما.
مات طارق بن زياد معدماً . 
وقيل انه شوهد في آخر أيامه يتسوّل أمام المسجد !! 
وكان يستحقّ أن يكون والياً على البلاد التي فتحها 
مثله مثل عمرو بن العاص الذي فتح مصر وتولى ولايتها ....