الحمد لله
أكثر الرواة على أن الشافعي قد ولد بغزة بالشام ، وعلى ذلك اتفق رأي الجمهرة الكبرى من مؤرخي الفقهاء وكاتبي طبقاتهم ، ولكن وجد بجوار هذه الرواية من يقول إنه ولد بعسقلان ، وهي على بعد ثلاثة فراسخ من غزة .
وعامة المؤرخين لنسبه أنه ولد من أب قرشي مطلبي ، واسمه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ، بن هاشم ، بن المطلب ، بن عبد مناف . فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف .
والأخبار تتفق على أنه عاش عيشة اليتامى الفقراء ، حفظ القرآن الكريم ، وبدا ذكاؤه الشديد في سرعة حفظه له ، ثم اتجه بعد حفظه القرآن الكريم إلى حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلفا بها ، حريصا على جمعها ، ويستمع إلى المحدثين فيحفظ الحديث بالسمع ، ثم يكتبه على الخزف أحيانا ، وعلى الجلود أخرى ، وكان يذهب إلى الديوان يستوعب الظهور ليكتب عليها .
خرج إلى البادية ولزم هذيلا وهو يقول : خرجت من مكة فلازمت هذيلا بالبادية ، أتعلم كلامها ، وآخذ طباعها ، وكانت أفصح العرب ، أرحل برحيلهم ، وأنزل بنزولهم ، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار ، وأذكر الآداب والأخبار ، ولقد بلغ من حفظه لأشعار الهذيليين وأخبارهم أن الأصمعي - ومكانته من اللغة مكانته – قال : صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس .
طلب الشافعي العلم بمكة على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين ، وبلغ شأوا عظيما ، حتى لقد أذن له بالفتيا مسلم بن خالد الزنجي ، وقال له : افت يا أبا عبد الله ، فقد آن لك أن تفتي .
وكان ذلك في وقت انتشر اسم مالك في الآفاق ، وتناقلته الركبان ، وبلغ شأوا من العلم والحديث بعيدا ، فسمت همة الشافعي إلى الهجرة إلى يثرب في طلب العلم ، ولكنه لم يرد أن يذهب إلى المدينة خالي الوفاض من علم مالك رضي الله عنه ، فقد استعار الموطأ من رجل بمكة وقرأه ، والروايات تقول إنه حفظه .
ذهب الشافعي إلى مالك يحمل معه كتاب توصية من والي مكة ، وبهذه الهجرة أخذت حياة الشافعي تتجه إلى الفقه بجملتها ، ولما رآه مالك – وكانت له فراسة – قال له : يا محمد ! اتق الله ، واجتنب المعاصي ، فإنه سيكون لك شأن من الشأن ، إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا ، فلا تطفئه بالمعصية . ثم قال له : إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك .
ويقول الشافعي : فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأ ظاهرا والكتاب في يدي ، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول : يا فتى زد ، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة .
لما مات مالك وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطرا ، اتجهت نفسه إلى عمل يكتسب منه ما يدفع حاجته ويمنع خصاصته ، وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى الحجاز والي اليمن ، فكلمه بعض القرشيين في أن يصحبه الشافعي ، فأخذه ذلك الوالي معه ، ويقول الشافعي : ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتمول به ، فرهنت دارا ، فتحملت معه ، فلما قدمنا عملت له على عمل.
تولى على نجران ، فأقام العدل ونشر لواءه ، ويقول هو في ذلك : وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان ، وموالي ثقيف ، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه ، فأرادوني على نحو ذلك فلم يجدوا عندي .
اتُّهِم الشافعي بأنه مع العلوية ، فأرسل الرشيد أن يحضر النفر التسعة العلوية ومعهم الشافعي ، ويقول الرواة أنه قتل التسعة ، ونجا الشافعي بقوة حجته ، وشهادة محمد بن الحسن له ، كان قدومه بغداد في هذه المحنة سنة (184هـ) أي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره . ولعل هذه المحنة التي نزلت به ساقها الله إليه ليتجه إلى العلم لا إلى الولاية والسلطان .
قال ابن حجر : انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس ، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه ، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة ، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حملا ليس فيه شيء إلا وقد سمعه عليه ، فاجتمع علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث ، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول وقعد القواعد وأذعن له الموافق والمخالف ، واشتهر أمره وعلا ذكره وارتفع قدره حتى صار منه ما صار .
بهت أهل الرأي في أول التقائه بهم في بغداد سنة (184هـ) حتى قال الرازي في ذلك : انقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث .
ثم عاد الشافعي إلى مكة وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي ، والتقى بأهل العلم في موسم الحج ، واستمعوا إليه ، وفي هذا الأوان التقى به أحمد بن حنبل .
ثم قدم الشافعي بغداد للمرة الثانية في سنة (195هـ)، وألف لأول مرة كتاب " الرسالة " الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه ، وجاء في مناقب الشافعي للرازي أنه روى أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص ، فوضع الشافعي رضي الله عنه كتاب " الرسالة " وبعثها إليه ، فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي قال : ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل ، ثم يقول الرازي : واعلم أن الشافعي رضي الله عنه قد صنف كتاب الرسالة وهو ببغداد ، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة ، وفي كل واحد منهما علم كثير .
ثم انتقل الشافعي إلى مصر ، قال الربيع : سمعت الشافعي يقول ـ في قصة ذكرها :
لَقَدِ أصبحَتْ نَفْسِي تَتُوقُ إِلَى مِصْرَ ... وَمِنْ دُونِهَا أَرْضُ المَهَامِهِ وَالقَفْرِ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَلِلْمَالِ وَالغِنَى ... أُسَاقُ إِلَيْهَا أَمْ أُسَاقُ إِلَى قَبْرِي
قال : فوالله ما كان إلا بعد قليل ، حتى سيق إليهما جميعا !!"
"تاريخ بغداد" (2/70) ، "سير أعلام النبلاء" (10/77) .
يعني : أنه نال المال والغنى ، والوفرة والحظوة والمكانة في مصر ، ثم كانت وفاته فيها في آخر ليلة من رجب سنة (204هـ) ، وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عاما ، وقبره بها !!
قال داود بن علي الظاهري :
" للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من شرف نسبه ، وصحة دينه ومعتقده ، وسخاوة نفسه ، ومعرفته بصحة الحديث وسقيمه وناسخه ومنسوخه وحفظ الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف "
ولقد قال أحمد بن حنبل فيه :
" ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها ، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة ، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى "
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضا :
" كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن ، فهل ترى لهذين من خلف ، أو عنهما من عوض " .
وللتوسع عن حياة هذا الإمام وعلمه وفقهه ، نحيل إلى كتاب " الإمام الشافعي حياته ومذهبه ، آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة .
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق