1- إن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر،
أو خفي وكان في مكان سحيق قال سبحانه
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ
وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
[الأنعام: 59].
وجاء في قوله تعالى عن لقمان:
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ
أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
[لقمان: 16].
فالله لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة وهي الحبة الصغيرة التي لا وزن
لها، فإنما ولو كانت في صخرة في باطن الأرض، أو في السماوات فإن
الله يستخرجها ويأت بها، لأنه اللطيف الخبير.
2- وإذا علم العبد أن ربه متصف بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة
وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، فإنه في كل
وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير،
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
[تبارك: 14].
والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين، إن خيراً فخير، وإن
شراً فشر، لا يفوته من أعمالهم شيء، فلا المحسن يضيع من إحسانه
مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة.
قال تعالى:
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }
[الأنبياء: 47].
وقال
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
[الزلزلة: 7-8].
ثم هو بعد ذلك يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه ما يشاء، ويعفو
ويتجاوز عن ذنوب من يشاء من عباده بلطفه وعفوه، ويعذب بالذنوب
من يشاء من عباده بعدله، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً.
4- الله لطيف بعباده، أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم.
قال الحليمي في معنى (اللطيف): وهو الذي يريد بعباده الخير
واليسر، ويقيض لهم أسباب الصلاح والبر.
ومن لطفه بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في معاشهم.
قال القرطبي في تفسير الآية السابقة
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ }
...: وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى،
وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحس لا يدرك
لها ثقلاً، إذ لا ترجح ميزاناً.
أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع، جاء الله بها
حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء
الفرائض، وعن أتباع سبيل من أناب إلي اهـ.
قال الغزالي: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها،
وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستحق سبيل الرفق
دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم تم معنى اللطف،
ولا يتصور كحال ذلك في العلم والفعل إلا لله تعالى.
فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك، بل الخفي مكشوف
في علمه كالجلي، من غير فرق، وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها فلا
يدخل أيضا تحت الحصر، إذ لا يعرف اللطف في الفعل، إلا من عرف
تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها، وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع
المعرفة بمعنى اسم (اللطيف)، وشرح ذلك يستدعي طويلاً ثم لا يتصور
أن يفي بعشر عشره، مجلدات كبيرة، وإنما يمكن التنبيه على بعض
جمله.
فمن لطفه: خلقه الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث وحفظه فيها
وتغذيته بواسطة السرة، إلى أن ينفصل، فيستقل بالتناول بالفم، ثم إلهامه
إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل، من غير
تعليم ومشاهدة. بل فلق البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب
في الحال.
ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة، إلى وقت الحاجة للاستغناء في
الاغتذاء باللبن عن السن، ثم إنباته بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام،
ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن، وإلى، أنياب للكسر، وإلى ثنايا
حادة الأطراف للقطع، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق
في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة.
ولو ذكر لطفه في تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها
وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يصحى عددهم، من مصلح الأرض
وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها
إلى غير ذلك، لكان لا يستوفي شرحه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق