يمكن اعتبار هذا الكتاب الموسوعي الضخم أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة في العالم منذ ثلاثين عاما، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
|
ويقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً ، أم هجوماً إرهابيا، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
فالكارثة تضع جميع السكان في حال من الصدمة الجماعية، وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية، كلها، لتطويع مجمل المجتمعات.
في عام 1982 كتب ميلتون فريدمان زعيم صبيان شيكاغو: "وحدها الأزمة –الواقعة أو المنظورة- هي التي تحدث تغييراً فعلياً".
في نشأة عقيدة الصدمةنشأت عقيدة الصدمة في الخمسينيات من القرن العشرين في مجال الطب النفسي فقد تعاونت وكالة الاستخبارات الأميركية مع الطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها.
في أوائل الخمسينيات رفض كاميرون النظرية الفرويدية المنادية باستخدام "المعالجة بالكلام" فهو لم يكن يطمح إلى معالجة المرضى بل إلى إعادة خلقهم من جديد باستخدام أسلوب سماه "القيادة النفسية"، وما تهدف إليه طريقته هو إعادة دماغ المريض صفحة بيضاء عن طريق مهاجمته بالصدمة الكهربائية لمحو كل السلوكيات القديمة.
تسبب الصدمات الكهربائية فقداناً للذاكرة ونكوصاً سلوكياً، فبعض المرضى يمصون أصابعهم عند انتهاء الجلسة، وبعضهم يشعر بالفراغ المطلق. كتبت إحدى من تعرضن للصدمة "بت الآن أعرف ما كان شعور حواء حقاً عندما خلقت من ضلع آدم بدون أي ماض. أنا أشعر بالفراغ الذي شعرت به حواء".
وقد شكل هذا الفراغ النتيجة المطلوبة بالنسبة لكاميرون ففقدان جميع المعلومات المكتسبة هو ما يبحث عنه، لأنه يبحث عن إعادة مرضاه إلى الطفولة. وتشبه الكاتبة مناداة صقور الحرب بقصف البلدان للعودة بها إلى "العصر الحجري"."نشأت عقيدة الصدمة في الخمسينيات من القرن العشرين في مجال الطب النفسي فقد تعاونت وكالة الاستخبارات الأميركية مع الطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين "
كان كاميرون يعتقد أن ثمة عاملين مهمين يتيحان لنا الحفاظ على إدراكنا البيانات الحسية التي ترد لنا باستمرار، والذاكرة. لذلك حاول إلغاء الذاكرة بواسطة الصدمات الكهربائية والمهلوسات، وحاول إلغاء البيانات الحسية بواسطة العزل التام. وهنا نصل إلى طبيب الصدم الاقتصادي ميلتون فريدمان.
فريدمان والعلاج بالصدمة الاقتصاديةارتبط اسم فريدمان بقسم العلوم الاقتصادية بجامعة شيكاغو التي لعبت دوراً يتجاوز دورها كجامعة، بل كان هذا القسم مدرسة للفكر المحافظ، ومقراً للمعادين للكينزية، وللتدخل الحكومي، والداعين لحرية مطلقة للأسواق.
بقي فريدمان في عزلة فكرية حتى صعود ريغان وتاتشر في الثمانينيات إلى السلطة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا فبدآ تطبيق برامجه بخلق أسواق حرة خالية من القيود، وبعد ذلك تحولت الصين إلى اقتصاد السوق وانهار الاتحاد السوفياتي فلم يعد يقف شيء في وجه العقيدة الفريدمانية، وبعد وفاته في عام 2006 كُرس كأحد أبطال الحرية بقرار من الكونغرس، كما سمت ولاية كاليفورنيا يوم 29 يناير/كانون الثاني 2007 بيوم فريدمان، لكن الكاتبة تكشف الوجه الآخر لهذه المدرسة فهي قد طبقت سياساتها بواسطة الإرهاب والقتل والدمار من انقلاب سوهارتو وبينوشيه في كل من إندونيسيا وتشيلي وصولاً إلى قصف العراق.
تقول الكاتبة: "ارتكزت مهمة ميلتون فريدمان، كما مهمة كاميرون، على حلم العودة إلى تلك الحالة من الصحة "الطبيعية"، التي كان التوازن مستتباً على نحو كامل بعيداً عن تدخل الإنسان وإنتاجه أنماطا مشوهة، كما حلم كاميرون بإعادة ذهن الإنسان إلى حالته النقية، كذلك حلم فريدمان بتفكيك نمط المجتمع وتحويله إلى حالة من الرأسمالية النقية المطهرة من جميع التشويشات الخارجية".
وتثبت الكاتبة أن تطبيق سياسات فريدمان لم يتم في ظروف ديمقراطية أو طبيعية بل ترافق ذلك مع الانقلابات العسكرية وانتشار التعذيب واستغلال الحروب والكوارث الطبيعية.
تتعدد وجوه الفريدمانية وأسماؤها لكنها تتميز بالثالوث التالي: إلغاء القطاع العام، منح الحرية الكاملة للشركات، الحد الكبير للإنفاق الاجتماعي. "في كل بلد تطبق فيه سياسات مدرسة شيكاغو كان ينشأ تحالف نافذ بين عدد صغير من الشركات الكبرى وطبقة من السياسيين الأكثر ثراءً ".
وتقول الكاتبة إن التعبير الأدق الذي يصف نظاماً يُسقط الحدود بين الحكومات والأعمال الكبرى ليس "الليبرالية" أو "المحافظة" أو "الرأسمالية"، بل"المؤسساتية" ومن الميزات الرئيسية لهذا النظام:"جالت رأسمالية الكوارث والعلاج بالصدمة من بوليفيا إلى بولندا ثم إلى روسيا وشرق آسيا بعد كارثة 1997 الاقتصادية, لكن المفصل الحقيقي في تاريخ هذه العقيدة هو العراق ففيه بلغت هذه العقيدة ذروتها ثم بسبب المقاومة بدأت انحدارها السريع"
1- التحويلات الضخمة للثروات من القطاع العام إلى يد القطاع الخاص.
2- اتساع الهوة بين أصحاب الثراء الفاحش وضحايا الفقر المدقع.
3- قومية عدائية تبرر الإنفاق اللامتناهي على حفظ الأمن.
جالت رأسمالية الكوارث والعلاج بالصدمة من بوليفيا إلى بولندا ثم إلى روسيا وشرق آسيا بعد كارثة 1997 الاقتصادية التي حولت النمور الآسيوية في أيام إلى نمور من ورق، ثم استغلال كارثة تسونامي لتنظيف الشاطئ من قرى الصيادين وإحلال منتجعات سياحية ضخمة مكانها واعتبار الشاطئ منطقة مغلقة على أهل البلد. لكن المفصل الحقيقي في تاريخ هذه العقيدة هو العراق ففيه بلغت هذه العقيدة ذروتها ثم بسبب المقاومة بدأت انحدارها السريع.
العراق وارتداد عقيدة الصدمةتسمي الكاتبة ما جرى في العراق بـ"فرط الصدم". فالهجوم المكثف على هذا البلد وتدمير بناه التحتية بشكل تام رغبةً في محوه وإعادته صفحة بيضاء أي إلى العصر الحجري. هذا الصدم المفرط ولد نتيجة غير متوقعة بالمرة وهي تعزيز عزيمة الناس وإصرارهم على المقاومة.
ما حدث في العراق كان تبنياً صريحاً لعقيدة الصدمة "الوقت الأفضل للاستثمار هو حين يكون الدم لا يزال على الأرض" هذا ما صرح به للكاتبة أحد المندوبين في المؤتمر الثاني لإعادة إعمار العراق.
فمهندسو الغزو كانوا من أشد المؤمنين بعقيدة الصدمة، وكانوا متأكدين أن البلد سيتم بيعه بالمزاد العلني بينما يكون العراقيون تحت تأثير صدمة القصف. فبعد صدمة القصف جاء دور الصدمة الاقتصادية.
تشرح الكاتبة أن الحرب طريقة من طرق التعذيب الجماعي، فقد رمى الجيش الأميركي أكثر من ثلاثين ألف قنبلة على العراق إضافة إلى عشرين ألف صاروخ كروز أي 67% من عدد الصواريخ المصنوعة. كانت عقيدة الصدم والترهيب عقيدة عسكرية تفاخر بأنها لا تستهدف قوات العدو العسكرية فحسب بل "المجتمع بأسره" كما يشدد واضعوها، "فالخوف الجماعي هو جزء أساسي من الإستراتيجية".
كما أن الحرب كانت تبث بشكل مباشر عبر الـCNN من أجل خلق نموذج توجيهي سلوكي لكل العالم. فالحرب نوع من الاستعراض والتواصل الجماعي. استعراض للقوة العسكرية وإيصال رسائل لكل الفرقاء أن هذا هو مصيركم إن فكرتم بالتمرد.
ولزيادة الخوف تم استخدام تقنية "عرض الأداة " وهي تهديد المعتقل باستخدام أداة التعذيب. فقبل شهرين من الحرب بثت "سي بي إس" تقريراً سمته "النهار هـ" وهو عن اليوم الأول المتوقع للقصف الجوي. وشرح هالن أولمان -أحد واضعي إستراتيجية الصدمة والرعب- "أن أثر الهجمات الجوية المكثفة الشبيه نوعاً ما بأثر القنبلة النووية في هيروشيما، لا يستغرق أياماً أو أسابيع، بل دقائق".
وضخت وسائل الإعلام تقارير مرعبة للعراقين عما سيحدث لهم ولبلدهم وذلك عبر السواتر والاتصالات الهاتفية من الخارج، فأمضوا أشهراً يتخيلون فظائع "الصدمة والترهيب"، وفي استعراض مماثل تم إلقاء الضوء على أم القنابل قبل بدء الحرب.
لقد كان يلوح للعراقيين بتلك الأدوات كما يفعل الجلادون بالمساجين في غرف التعذيب. ثم أُخضع سكان بغداد عند بدء الحرب إلى حرمان حسي، فبدأ قطع المداخل الحسية واحداً وراء الآخر. أولاً السمع فقد قُصفت وزارة الاتصالات وفي 2 أبريل/نيسان لم يبق هاتف يعمل في بغداد.
ويقول العديد من العراقيين إن تعطل شبكة الهاتف لديهم كان الجزء الأكثر رعباً في الهجوم الجوي. فعدم إمكانية معرفة هل بقي الأصدقاء والأقرباء على قيد الحياة في ظل سقوط القنابل؟ كان عذاباً حقيقياً. كما تنقل الكاتبة عن سكان بغداد."تعطل شبكة الهاتف لدى العراقيين كان الجزء الأكثر رعباً في الهجوم الجوي, فعدم إمكانية معرفة هل بقي الأصدقاء والأقرباء على قيد الحياة في ظل سقوط القنابل؟ كان عذاباً حقيقياً"
وبعد السمع حان دور العينين ففجأة غرقت بغداد يوم 4 أبريل/نيسان بالظلام التام. وبعد ذلك جاء وقت الراحة في إستراتيجية التعذيب. في هذا الوقت تتم إهانة المعتقل ورموزه الحضارية، وتجلت هذه المرحلة بالنهب ودمار التراث العراقي عبر سرقة المتاحف والمكتبات الوطنية ومخابر الجامعات. وقد شبه ماكغوير غيبسون -وهو عالم آثار من جامعة شيكاغو- هذه العملية بجراحة فص الدماغ.
أما ماكفرسون -المسؤول الأميركي عن إعادة الإعمار، وهو أحد صبيان شيكاغو- فقد وصف النهب بأنه نوع من تقليص القطاع العام. لذلك لم ينزعج منه. وخلاصة الأمر لقد رأى المسؤولون الأميركيون حلم الصفحة البيضاء يتجسد أمامهم في العراق. لكن غير المتوقع حدث وقلب الطاولة. لقد ارتدت عقيدة الصدمة على واضعيها وأدى فرط الصدم إلى تحفيز روح المقاومة.
كما ترافق التعذيب الجماعي للشعب العراقي مع انتشار التعذيب الجسدي الفردي على نطاق واسع فقد بلغ عدد المعتقلين في ثلاث سنوات ونصف الأولى من الاحتلال 650 ألف معتقل استخدمت كل تقنيات الإرهاب والتعذيب الجسدي معهم.
واستعان الاحتلال الأميركي بخبراء في عقيدة الصدمة مثل الضابط الأميركي جايمز ستيل الذي وصل إلى العراق في مايو/أيار 2003 وكان قد خدم كمستشار أميركي لعدد من كتائب الموت السلفادورية.
تقول الكاتبة: "ظهرت صدمة غرفة التعذيب -بحسب هذا التسلسل الزمني- فور بروز صدمة بريمر الاقتصادية الأكثر إثارة للجدل ......".
لكن فرط الصدم هذا لم يجد وارتد على منفذيه فمن العراق انطلقت حركة ارتدادية هائلة تجتاح العالم اليوم ضد رأسمالية الكوارث وعقيدة فريدمان.
تقهقر الصدمة الفصل الأخير تخصصه الكاتبة لما تسميه ارتداد عقيدة الصدمة على مخترعيها فالشعوب بدأت تستيقظ. ترافق نعي ميلتون فريدمان أواخر 2006 بالتفكير بأن رحيله مؤشر إلى نهاية عصر.
وبدأت التساؤلات عن مصير الحركة التي أطلقها، فالمحافظون الجدد تلامذة فريدمان ومطلقو رأسمالية الكوارث خسروا الانتخابات النصفية في الكونغرس، وكان ذلك بسبب فشل مشروع احتلال العراق، وبدأت ملامح ثورة مضادة ضد الفريدمانية واضحة في المخروط الجنوبي أول من طبقت عليه هذه السياسة، فقد فاز إيفوموراليس في انتخابات الرئاسة في بوليفيا ليصبح ثاني رئيس في أميركا اللاتينية يحمل برنامجاً اجتماعياً بعد الرئيس شافيز في فنزويلا.
لقد بدأ ينحسر مفعول الصدمة وتعطلت عقيدة الصدمة فنهضت الشعوب في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وباقي دول أميركا اللاتينية. وامتدت الثورة المضادة للفريدمانية إلى بولندا وروسيا."بدأ ينحسر مفعول الصدمة وتعطلت عقيدة الصدمة فنهضت الشعوب في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وباقي دول أميركا اللاتينية. وامتدت الثورة المضادة للفريدمانية إلى بولندا وروسيا"
لقد بدأ يعلو نمط جديد من إعادة الإعمار هو "إعادة إعمار الشعب" ويتجلى في تشغيل العمال لمئات الشركات المفلسة في الأرجنتين، وإنشاء آلاف التعاونيات في بوليفيا، وإعادة إعمار القرى المهدمة على شواطئ آسيا. وصولاً إلى إعادة إعمار الضاحية في بيروت الذي نفذه حزب الله بالتعاون مع المواطنين بعيداً عن اشتراطات رأسماليي الكوارث.
عندما تصبح آلية الصدم معروفة على صعيد الجماعة تفقد الصدمة جزءاً كبيراً من فعاليتها لذلك فهي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بدأت تفقد فعاليتها.
ناعومى كلاين مؤلفة كتاب عقيدة الصدمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق